مسلسل "معاوية".. مرور عابر على التاريخ ضمن دراما المكايدة

عمل فني كبير تاهت فيه تفاصيل البطل بين الاعتبارات السياسية.
الأربعاء 2025/03/12
معالجة درامية سطحية لشخصية مهمة في التاريخ الإسلامي

بعد انتظار عرضه لنحو ثلاث سنوات، جاء مسلسل "معاوية" مخيبا للآمال، حيث يتعرض منذ أولى حلقاته لانتقادات حادة جراء التناول السطحي لواحدة من أظلم فترات التاريخ الإسلامي واكتفائه بتبييض شخصية معاوية دون اهتمام واضح بتوضيح أحداث وحقائق تاريخية، إلى جانب الإخراج غير المتزن وأداء الممثلين الذي أظهر ضعفا كبيرا.

وفقا لتعريف المؤلف والمخرج الفرنسي الشهير جان لوك غودار فإن “الفن هو الكذب الذي يجعلنا ندرك الحقيقة،” والمقصود هنا أن الفنان ليس ملزما بسرد الحقيقة التاريخية بحذافيرها، بل يمكنه إعادة تشكيل الأحداث بطريقة تخدم رؤيته الفنية، طالما أنه يسعى لإيصال حقيقة أعمق أو وجهة نظر ذات معنى.

وإذا حاولنا تقييم مسلسل “معاوية” الذي يعرض في رمضان الحالي، والذي يقال إنه العمل الأضخم من ناحية الإنتاج في تاريخ الدراما العربية، بالمنطق نفسه، فعلينا أن نسأل هل قام المؤلف خالد صلاح بإعادة تشكيل الأحداث التاريخية بطريقة تخدم رؤيته الفنية؟ وما هي الحقيقة الأعمق التي قدمها للمشاهدين عبر المسلسل؟

الإجابة عن السؤال الأول وفقا لما عرض من حلقات المسلسل أنه لم يقدم رؤية مختلفة لأحداث تاريخية لا تزال تسبب الألم لمعظم المسلمين السنة والشيعة رغم مرور أكثر من 1400 سنة على وقوعها، وإنما فقط حاول تبييض وجه معاوية من خلال تقديمه كشخص مثالي حالم وجد نفسه -كما قال المؤلف- وسط أحداث عاصفة لم يختر أن يكون داخلها، وتعامل معها بما اعتقد أنه التصرف الصحيح.

بين “معاوية” و”عمر”

المسلسل قدم دراما يمكن تصنيفها تحت عنوان "المكايدة السياسية" دون أن يهتم بتجنب الكثير من الملاحظات الدرامية والتاريخية
المسلسل قدم دراما يمكن تصنيفها تحت عنوان "المكايدة السياسية" دون أن يهتم بتجنب الكثير من الملاحظات الدرامية والتاريخية

أما الإجابة عن السؤال الثاني فأخشى أنها لن تخرج عن أن المسلسل لا يقدم وجهة نظر أو مقاربة مختلفة لشخصية معاوية كما قال المؤلف، بعيدا عن قصة المنتصر والمهزوم، وإنما قدم دراما يمكن تصنيفها تحت عنوان “المكايدة السياسية”، أو بمنطق لعب الأطفال “طفل يغيظ نظراءه بإخراج لسانه لهم” دون أن يهتم بتجنب الكثير من الملاحظات الدرامية والتاريخية على عمل يتعرض لواحدة من أظلم فترات التاريخ الإسلامي، ويحاول رسم واحدة من أكثر الشخصيات الجدلية فيه، وهي ملاحظات كفيلة بأن تخرج المسلسل من عباءة الاجتهاد الدرامي.

حين تتم مقارنة العمل مع أعمال تاريخية مشابهة تناولت سيرة أحد الصحابة وهو مسلسل “عمر”، تكون النتيجة في غير صالح “معاوية” من أكثر من زاوية، أولاها أن المؤلف خالد صلاح والمخرج أحمد مدحت يصنفان ضمن الهواة في الأعمال الدرامية بشكل عام، والدراما التاريخية بوجه خاص، ولم يسبق لأي منهما أن قدم عملا تاريخيا من قبل، عكس مسلسل “عمر” للمخرج حاتم علي والمؤلف وليد سيف وكلاهما معروف بإجادته الأعمال التاريخية.

كما أن مسلسل “معاوية” لم يحمل أي إشارة في تتراته (المقدمة والنهاية) تدل على وجود لجنة من المتخصصين في التاريخ الإسلامي لمراجعة أحداثه أو تدقيقها، بينما استعان حاتم علي بلجنة من العلماء والمؤرخين لضمان الدقة، ولم يتضمن مسلسل “معاوية” تنويها يشير إلى أن بعض الشخصيات والأحداث التاريخية هي من نسج خيال المؤلف، حتى يستفيد من مقولة جان غودار السابقة بأن العمل الدرامي ملك لصناعه، وربما كانت إشارة كتلك كفيلة بتجنيب المسلسل الكثير من الانتقادات حول المغالطات التاريخية التي عرضها، وإعفاء صناع العمل بشكل عام من مواجهة اتهامات بمحاولة تشويه التاريخ وإثارة الفتنة بين السنة والشيعة، عبر المبالغة في إبراز إيجابيات معاوية بن أبي سفيان والتغاضي عن سلبياته.

إذا كان التصدي لتقديم أعمال تاريخية يحتاج إلى أشخاص يملكون الجرأة، فإن الاقتراب الدرامي من شخص مثل معاوية بن أبي سفيان دون التجهيز له بشكل كاف والتسلح بأطقم من الدارسين المتخصصين في تلك الفترة التاريخية بالتحديد يعد نوعا من التهور لأكثر من سبب.

الأول: أن صناع العمل وضعوا أنفسهم في مواجهة عاصفة مع الذاكرة الجمعية الإسلامية بشقيها السني والشيعي، عبر استعراض حياة أحد أهم الأشخاص الذين زرعوا التوتر في هذه الذاكرة منذ أربعة عشر قرنا ولا يزال مستمرا حتى الآن، بسبب دوره في ما عرف بالفتنة الكبرى، التي حفرت مكانتها المأساوية كأخطر فتنة في تاريخ الإسلام، والتي نتج عنها في وقت لاحق شق صفوف المسلمين إلى سنة وشيعة، وتحويل الحكم في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ الدعوة من الشورى إلى التوريث، مرورا بإخراج صورة الحاكم المسلم من كونه ناسكا زاهدا مثلما سار عليه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، إلى كونه أميرا غارقا في ترف قصور دمشق ومرتديا أفخم الملابس ومحاطا بالحراس.

حح

والثاني: الجدل العنيف والممتد والأهم من ذلك غير المحسوم طوال قرون، حتى أن أديبين بمكانة وقيمة د. طه حسين وعباس محمود العقاد اختلفا في تقييم شخصية معاوية، فكتب الأول في وصفه قائلا “لم يكن معاوية من أولئك الذين يقاتلون عن عقيدة، أو يناضلون في سبيل مبدأ، وإنما كان رجل دولة، يعمل للحكم قبل كل شيء، فإذا خدمه الدين فذاك به حفي، وإن لم يخدمه الدين، فهو قادر على أن يلتمس لنفسه أسبابًا أخرى للغلبة.”

بينما اعتبره عباس محمود العقاد سياسيا براغماتيا حافظ على الأمة الإسلامية من التفتت بعد أحداث الفتنة الكبرى، وكتب يصف الفارق بينه وبين علي بن أبي طالب قائلا “لم يكن خلاف معاوية مع علي بن أبي طالب على دين أو عقيدة، وإنما كان خلافًا بين رجل يريد إقامة العدل على أصوله، ورجل يريد أن يجنب الناس الفتنة ولو كان الثمن بعض التساهل في المبادئ.”

وسط هذا الخلاف لم يكن من الذكاء أن يُقدم المؤلف في عمله الدرامي الأول على التصدي لعمل بهذه الضخامة وهذا الجدل، دون أن يستعين بمتخصصين يساعدونه في ضبط وتدقيق الأحداث التاريخية، خصوصا أنه غير متخصص في التاريخ الإسلامي حتى في عمله الصحفي، أو إسناد الإخراج لمخرج له باع طويل في تقديم الأعمال التاريخية لتعويض أوجه القصور عند المؤلف، بدلا من المخرج أحمد مدحت الذي لم يسبق له أيضا تقديم عمل تاريخي من قبل، علما بأنه حل محل المخرج طارق العريان الذي اعتذر عن استكمال العمل بعدما بدأ تصوير عدة مشاهد منه لأسباب غير معلومة.

كما لم يكن موفقا توجيه دفة الأحداث في المسلسل في اتجاه واحد هو تمجيد شخص معاوية دون الوقوف عند زلاته، وهو ما يثير التساؤلات عن المصادر التاريخية التي استند إليها المؤلف في كتابة السيناريو، باعتبار أن معظم الكتب والدراسات التي تناولت قصة معاوية بن أبي سفيان لم تغدق عليه الصفات المثالية التي أسبغها عليه المسلسل، وذهبت أقلام أقصى المنصفين له إلى أنه رجل دولة كان بارعًا في الحكم والإدارة استطاع توحيد الأمة بعد الفتنة واستخدم الحيلة والدهاء لضبط الأمور السياسية بحنكة.

خليط غير متجانس

حح

جانب آخر من التهور تمثل في المنهج الدرامي الذي اتبعه المؤلف في عرض شخصية معاوية، إذ أن المتعارف عليه في الأعمال الدرامية التي تقدم سيرا ذاتية أن تسلك واحدا من طريقين:

الطريق الرأسي، بمعنى التقاط موقف أو مناسبة فارقة في حياة صاحب السيرة الذاتية، لكي يدلف من خلالها المؤلف لرسم صورة متكاملة عن الشخصية مستعينا بالتحليل النفسي والسلوكي والعاطفي لكي يقدم في النهاية الملامح المميزة للشخصية، مثلما فعل المؤلف محفوظ عبدالرحمن في فيلم “ناصر 56” حين توقف أمام قرار الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس في عام 1956 واستغرق في تفاصيل ما تبع القرار من تداعيات مثل تعرض مصر لعدوان ثلاثي من إسرائيل وإنجلترا وفرنسا، لتقديم صورة عن قرب لشخصية الزعيم الراحل.

أما الطريق الثاني (الأفقي)، وهو المعتمد غالبا في الأعمال التسجيلية، فهو يقدم سردا عابرا لتاريخ الشخصية مع توقف بسيط عند أهم المحطات في مسيرتها من باب السرد وإظهار كوامنها دون تعمق داخل كل موقف، وهو ما قدمه حاتم علي مثلا في مسلسل “عمر” الذي أنتجته وعرضته “إم بي سي” أيضا عام 2012، كما قدمه المؤلف الإنجليزي بيتر مورغان في مسلسل “التاج” أو “The Crown” الذي عرض فيه تاريخ الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا الراحلة منذ طفولتها مرورا بتوليها ولاية العهد ثم تتويجها ملكة، وعلاقتها بأولادها وزوجها، وقدمه كذلك الكاتب أحمد بهجت في فيلم “أيام السادات”.

المسلسل حاول تقديم معاوية كشخص مثالي حالم وجد نفسه وسط أحداث عاصفة لم يختر أن يكون داخلها

المفارقة أن خالد صلاح لم يعتمد أي من الطريقين وإنما لجأ إلى طريق ثالث هو خليط من الأفقي والرأسي، دون أن ينجح السيناريو في المزج بينهما ما أدى إلى خروج الحلقات باردة تفتقد للحيوية والإيقاع والقدرة على جذب المشاهدين لمتابعة الأحداث المفصلية التي شكلت واحدة من أهم الفترات في التاريخ الإسلامي، بل على العكس من ذلك تطلب الأمر الكثير من الجهد من المشاهدين لمواصلة متابعة الحلقات.

كما خرج العمل خاليا من التعبيرات تقريبا وبدا واضحا أن أغلب الممثلين المشاركين في المسلسل غير قادرين على الاندماج مع الشخصيات التاريخية التي يقدمونها، فجاءت معظم المشاهد دون روح رغم وجود ممثلين كبار سبق لهم أن شاركوا في أعمال تاريخية مهمة مثل أيمن زيدان وصبا مبارك وإياد نصار.

ربما يكون أحد أسباب هذا الارتباك في المنهج الدرامي للمسلسل وجود المخرج أحمد مدحت صاحب السجل في إخراج الأفلام التسجيلية منذ تخرجه من معهد السينما في عام 1991 وحتى إخراج أول أفلامه الروائية “التوربيني” عام 2007، وقد بدا واضحا للمشاهدين التخبط بين التركيز على شخصية معاوية وتقديمه بشكل إنساني، وبين السرد التسجيلي لأحداث الفترة التاريخية التي عايشها، حيث تجد المسلسل في بعض المشاهد يرصد التحولات العاطفية لمعاوية، لكن بشكل سطحي غير متعمق، ثم يعود سريعا إلى السرد التسجيلي العابر للأحداث، ما بدا أنه انعكاس لصراع الإرادات بين المؤلف والمخرج، ووقع الاثنان في أخطاء رصدها المتخصصون في الديكورات والملابس المستخدمة في العمل، مثل استخدام ملابس العصرين المملوكي والعثماني اللذين لم يكونا قد ظهرا بعد في تلك الفترة المبكرة من الإسلام، واستخدام تعبيرات في الحوار لم تكن مستخدمة في الفترة التي يتعرض لها المسلسل.

14