عندما تدير إسرائيل ظهرها للعالم

تصاعدت الهجمة على الأونروا تزامنا مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ووصلت إلى ذروتها في اتهام إسرائيل لموظفين فلسطينيين في المنظمة الدولية بالمشاركة في الهجوم على غلاف غزة في 7 أكتوبر. الأمر الذي استتبعه قرار الولايات المتحدة تجميد تمويلها للأونروا، وتبعها في ذلك عدد من الدول الأوروبية، قبل أن يعود بعض تلك الدول عن قرار وقف التمويل بعد إخفاق إسرائيل في تقديم أيّ دليل على ادعائها. يبدو أن إسرائيل قد بدأت بتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين وشرعت بمهاجمة مخيمات مدن الضفة الغربية الشمالية مدينة تلو الأخرى، وركزت حملتها على المخيمات في جنين وطولكرم ونابلس.
هنا الكل يتساءل: لماذا تقوم إسرائيل بهذه الحملة في هذا الوقت بالتحديد؟ لقد كانت إسرائيل تتذرع بملاحقة كتيبة جنين التي كانت تطلق النار على قوات الاحتلال على تخوم المدن الثلاث حيث كبرى مخيمات اللجوء هناك مما أزعج إسرائيل. لهذا شنت هذه الحملة العسكرية والأمنية لتطهير المخيمات من المسلحين على حد قولهم. أتذكر ما صرّح به رئيس وزراء إسرائيل بعد طوفان الأقصى حيث قال “لم يكن لدينا قبل السابع من أكتوبر يوم الطوفان حجة داخلية ودولية بالدخول إلى غزة ومحاربة حماس، فاليوم لدينا ذريعة القضاء على حماس.”
◄ لقد بدأت إسرائيل فعليا بإجراءات ضم الضفة الغربية من خلال الاجتياحات المتكررة لمدن الضفة الغربية، ونصب البوابات على مداخل المدن والقرى والمخيمات في الضفة الغربية
لا تختلف الضفة الغربية كثيرا عمّا جرى في غزة، ففي طولكرم وجنين تم تجريف الطرق، وتخريب البنية التحتية من أجل إعادة هيكلة المخيمات حسب ما تقتضيه الحاجة الأمنية، مع بقاء إسرائيل في شمال الضفة حتى إشعار آخر. إذن القضية ليست في ملاحقة المسلحين على حد قول نتنياهو، فالموضوع أكبر من ذلك وهو احتلال شمال الضفة الغربية والتواجد فيه وإعادة احتلال الضفة الغربية، ونسف اتفاق أوسلو والقضاء على حلم الدولة الفلسطينية.
أما المسعى الأكثر إلحاحا، فهو إصرار رئيس وزراء إسرائيل وائتلافه الحاكم في الوقت الراهن والضغط على ترامب بسرعة إصدار قرار بضم الضفة الغربية والذي أرجأه إلى وقت غير مسمّى، وفي النهاية سوف يرى النور. بهذا تكون إسرائيل قد حققت ما تريد وهو ضم الضفة الغربية والقضاء على السلطة الفلسطينية، لتكون البلديات هي من يدير زمام الأمور وتلبية حاجات الناس المدنية مع وجود قوة شرطة محدودة شكلا.
والحال أن إسرائيل اليوم أمام مخططين تسعى لتحقيقهما: الأول تهجير الغزيين وبناء مستوطنات ومشاريع اقتصادية بشراكة مع ترامب، والمخطط الثاني، وهو الأهم، ضم الضفة الغربية وتصفية قضية المخيمات واللاجئين فضلا عن التضييق على السكان هناك، من خلال تطبيق القوانين المطبقة على سكان مدينة القدس وضواحيها المتمثلة في منعهم من البناء وزيادة وتيرة هدم البيوت وخصوصا في المناطق المصنفة “أ، ب”. فعلا تقوم جرافات الاحتلال بهدم البيوت في جميع مدن الضفة الغربية وبالذات مدينة القدس بحجة عدم وجود تراخيص. أما حجة ترخيص البيوت فهذه قصة أخرى، فإسرائيل ترفض مطلقا إعطاء تصاريح تشييد البيوت في القدس والمناطق المصنفة “أ، ب” بحجة أن هذه الأراضي إسرائيلية.
لقد سطرت في مقالات سابقة عن أهمية الضفة الغربية في المعتقد التوراتي وقلت بأن الضفة الغربية تعني لإسرائيل الكثير. تبدو ملامح الصهيونية الدينية واليمين القومي في إسرائيل في زيادة خططهم التوسعية في الضفة الغربية، وهذا التوسع نابع من العقيدة اليهودية. فإن التاريخ العبري بمجمله كان في الضفة الغربية على حد قولهم وما جاء في التوراة، فقد قامت دولة “إسرائيل” القديمة، وكذلك دولتا يهودا و”إسرائيل” بعد انقسامهما في الضفة الغربية. وفق ذلك التاريخ، تنسب اليهودية لنفسها إرث الأنبياء داود وسليمان عليهما السلام، فإن مملكة “إسرائيل” قامت في شمال الضفة الغربية، وكانت عاصمتها آنذاك نابلس “شكيم” الاسم العبري.
◄ الضفة الغربية لا تختلف كثيرا عمّا جرى في غزة، ففي طولكرم وجنين تم تجريف الطرق، وتخريب البنية التحتية من أجل إعادة هيكلة المخيمات حسب ما تقتضيه الحاجة الأمنية
إذا نحن إزاء سباق في زيادة حجم البناء في الضفة الغربية بهدف منع إقامة دولة فلسطينية على حدود 67 والقدس الشرقية عاصمة لها. هذا الجانب السياسي، أما الجانب العقائدي وحسب التوراة، كما أسلفت، تعتبر الضفة الغربية جزءا أصيلا من الدولة اليهودية التوراتية، فيها أقيمت مملكة إسرائيل، وانفصلت بعدها لتصبح المملكة الواحدة مملكتين، وفيها القدس التي تزعم الصهيونية بكل أطيافها بأن الهيكل موجود داخل الأقصى.
قال ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، والذي كان يردد دائما منذ بداية تسلمه الحكم أنه “لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل.” فرغم كل ما يطرح من مبادرات تضغط باتجاه حل الدولتين والضفة الغربية هي الدولة الفلسطينية وقطاع غزة، تصطدم بصخرة التطرف الديني الصهيوني الذي يعتبر الضفة الغربية موطن آبائهم وأجدادهم، وأن العرب الفلسطينيين هم من احتلوا هذه الأرض، وينبغي تحرير الأرض من عذاباتها.
خلاصة القول، لقد بدأت إسرائيل فعليا بإجراءات ضم الضفة الغربية من خلال الاجتياحات المتكررة لمدن الضفة الغربية، ونصب البوابات على مداخل المدن والقرى والمخيمات في الضفة الغربية. هذا الإجراء التعسفي تريد إسرائيل من خلاله إيصال رسالة مفادها بأن الضفة الغربية هي عبارة عن امتداد للتاريخ اليهودي القصير في الضفة الغربية أو ما تسمّيه إسرائيل بيهودا والسامرة، والتي تعكف حكومة إسرائيل في قادم الأيام على إعادة تسمية الضفة الغربية بـ”يهودا والسامرة”. في المحصلة، المغزى منها هو الترحيل الطوعي لسكان الضفة الغربية عبر ممارستها للمضايقات، والحد من حرية المواطنين في الضفة الغربية ووضعهم في سجن كبير مغلق. بهذا تتحدى العالم ومؤسساته الدولية وهي ماضية في تحقيق أهدافها في الضفة الغربية وغزة دون أن تحسب للعالم حسابا.