القاهرة تجمد تشريعات خلافية تجنبا لانعكاسها على تماسك الجبهة الداخلية

تدرك الحكومة المصرية أن التطورات المحيطة تفرض عليها الحفاظ ما أمكن على تماسك الجبهة الداخلية وتجنب أي منغصات قد تؤدي إلى تأليب الشارع أو استفزاز المعارضة والقوى المجتمعية والنقابية، ومن هذا المنطلق قررت تأجيل النظر في جملة من القرارات والتشريعات الخلافية.
القاهرة - تتجه الحكومة المصرية نحو اتخاذ إجراءات احترازية تضمن عدم إثارة المواطنين ضدها من بوابة سن تشريعات ملتهبة، وقررت تجميدا مؤقتا لرؤى اقتصادية واجتماعية لها ارتدادات سلبية على تماسك الجبهة الداخلية وسط توترات إقليمية والحاجة إلى تكاتف الشارع ومواجهة مخطط تهجير سكان قطاع غزة إلى مصر.
ومررت الحكومة بعض الرسائل التي أوحت من خلالها بأنها معنية في المقام الأول بعدم الدخول في خلاف مع المعارضة، وتجميد أفكار كانت بحاجة إلى تشريعات، بينها التحول إلى الدعم النقدي بدلا من العيني على السلع، بعد أن قوبلت الفكرة باعتراضات ولم تستطع الحكومة إقناع الشارع بمزايا الخطوة.
وكان من المقرر أن يقدم الحوار الوطني لمجلس الوزراء تصورات نهائية بشأن الدعم النقدي، مع البدء التدريجي للتطبيق قبل تعميم الفكرة، غير أن ذلك لم يحدث، ما يوحي بوجود نية لوضع قضية الدعم النقدي في الأدراج إلى حين استقرار الأوضاع وقراءة المشهد كاملا، بحيث لا يكون النقاش حولها فرصة لتأليب مواطنين على الحكومة.
وبينما كانت هناك سخونة غير معتادة من جانب دوائر حكومية وبرلمانية لتمرير مشروع قانون المسؤولية الطبية الذي يبيح حبس الأطباء في بعض الأخطاء الطبية، توارى الحديث عن تلك القضية، بعد تصعيد حقوقي ونقابي ضد الحكومة، وغاب الحديث عن الملف برمته أخيرا، ما برره برلمانيون بأن “الحكومة قررت استمرار العمل على الوصول إلى توافق بشأن القانون”.
ومن بين التشريعات التي لم تعد تتحدث عنها الحكومة ما يتعلق بالأحوال الشخصية للمسلمين والمسيحيين، رغم أن اللجان المعنية بوضع نصوصهما قدمتهما إلى مجلس الوزراء تمهيدا لتحويلهما إلى مجلسي الشيوخ والنواب، لكن أصبح مصيرهما مجهولا، حيث يحملان تبعات سياسية ودينية لتعلقهما بعلاقات المصريين.
وحظي التشريعان بدعم من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وكلّف الحكومة بسرعة الانتهاء منهما، على أن يصبح هناك قانون خاص بالمسلمين وآخر للمسيحيين، لأول مرة في تاريخ البلاد، لكن يبدو أن هناك مخاوف من توظيف عناصر محسوبة على الإخوان والسلفيين لتأليب الشارع ضد بعض النصوص في توقيت حرج.
وأعلن رئيس الحكومة مصطفى مدبولي أن الحكومة لن تتسرع في تعميم تطبيق مقترح نظام البكالوريا كبديل عن الثانوية العامة، في ظل وجود تحفظات على بعض بنود المقترح، وقال إن الحكومة قد تطبق البكالوريا بشكل اختياري إلى حين اطمئنان المواطنين لها، كفترة انتقالية لاختبار مدى إيجابيتها ولن يتم فرض ذلك على أحد.
وبعدها خرج الناطق الرسمي باسم الحكومة محمد الحمصاني ليؤكد أن مجلس الوزراء لا يمانع التراجع عن نظام البكالوريا برمته، إذا انتهى الحوار المجتمعي برفض الفكرة أو المطالبة بتعديلها، ما يتناقض مع توجه وزير التعليم محمد عبداللطيف الذي أعلن بدء التطبيق من العام الدراسي المقبل، وينطلق في سبتمبر المقبل.
وتمس مرحلة البكالوريا شريحة كبيرة من المصريين، كونها المسؤولة عن تحديد المستقبل الجامعي، ومن ثم الوظيفي للطلاب، ويتعامل معها المواطنون بحسابات دقيقة، وكانت تأمل الحكومة أن يتقبل الشارع مقترح تغييرها لتكون نسخة من نظيرتها الأميركية والبريطانية، لكن الحوار المجتمعي حول الفكرة لم يصل إلى إجماع على قبولها.
وترى دوائر سياسية في القاهرة أن التجميد المؤقت لبعض التصورات الحكومية يعكس قدرا من الحنكة التي فرضتها تحديات داخلية وإقليمية متسارعة، بما يجعل تثبيت الأمن والاستقرار وتماسك الجبهة الشعبية أولوية قصوى، لأن العناد والمكابرة لهما تداعيات خطيرة عندما ينفض البعض من حول النظام لينشغل في قضايا هامشية.
وأظهرت مرونة الحكومة مع قضايا كانت تمثل أولوية بالنسبة لها، مثل إلغاء الدعم العيني أو تحرير سعر رغيف الخبز وإلغاء الثانوية العامة بشكلها الحالي، أنها لا ترغب في المجازفة بمناقشة قوانين ملتهبة قد تجعلها في مواجهة غير محسوبة العواقب، بالتزامن مع تهديدات خطيرة مرتبطة بتداعيات الحرب على غزة.
كما أنها ترفض أن تدخل في صدام مع نقابات مهنية أعلنت دعمها للنظام أخيرا، مثل الأطباء، مع تصاعد الحديث حول ملف التهجير، بما يجعلها تخسر قوة شعبية لا يستهان بها، مقابل صناعة معارضة سياسية بعيدة عن القوى المدنية التي اختفى دورها تقريبا، بما قد يثير منغصات للسلطة في توقيت تحتاج إلى تكاتف النقابات خلفها.
الحكومة المصرية تتجه نحو اتخاذ إجراءات احترازية تضمن عدم إثارة المواطنين ضدها من بوابة سن تشريعات ملتهبة
ولم يكن أمام دوائر السلطة من خيار سوى تجميد مناقشة بعض التشريعات الجدلية، لأن الرأي العام يعيش مرحلة لا تحتمل المزيد من التهور التشريعي، وهناك شريحة ليست بالقليلة ترفض اللعب على وتر صبر الناس وهم من يتحملون الكثير من المتاعب من أجل استمرار استقرار بلادهم.
ويبدو أن تركيز الحكومة في الوقت الراهن منصب بشكل أكبر على تجييش الرأي العام خلفها، ويظهر ذلك في الوعود التي أطلقها رئيس الوزراء بإصدار حزمة حماية اجتماعية استثنائية لمواجهة الغلاء والظروف المعيشية الصعبة، كمحاولة لتكريس الهدوء وغلق أي ثغرة ينفذ منها الخصوم من بوابة الأزمة الاقتصادية وتداعيتها.
أكد اللواء فاروق المقرحي عضو مجلس الشيوخ ومساعد وزير الداخلية الأسبق أن الأوضاع السياسية والاجتماعية لا تحتمل تشريعات أو تصورات جدلية، والحكمة تقتضي استمرار تماسك الجبهة الداخلية لمواجهة المخاطر القادمة من الخارج، وهناك قوانين يمكن تأجيلها إلى حين التوافق حولها بما لا يقدم هدايا مجانية لخصوم الدولة في توقيت يحتاج إلى التكاتف الشعبي.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن التجميد المؤقت لبعض التصورات لا يعكس ضعف الحكومة، بالعكس، يُحسب لها لأنها تستهدف الحفاظ على الشارع ككتلة واحدة وتتحرك بحسابات دقيقة، والمخاطر الإقليمية تستدعي التعاون وغلق منافذ جدلية عندما تكون الأغلبية خلف النظام في ملف قومي، ولا يجب تفريقها بقضايا تحتمل التأجيل.
وبعيدا عن أهداف الحكومة من وراء التجميد المؤقت لبعض تصوراتها، فإن ذلك لا يعني ضمان الهدوء السياسي خلال الفترة المقبلة، خاصة مع مناقشة التشريعات المرتبطة بنظام انتخابات مجلسي الشيوخ والنواب والمحليات بعد أيام قليلة، وعدم وجود توافق حزبي بين الموالاة والمعارضة حولها، لكن ما يطمئن الحكومة أن الشارع لا يكترث بالسياسة ودهاليزها.