فتاوى مليونية سنويا تستنزف إمكانات الدولة المصرية

القاهرة – أحدثت إحصائية رسمية صادرة عن مؤسستي الأزهر ودار الإفتاء في مصر بشأن عدد الفتاوى التي صدرت العام الماضي، صدمة لدى دوائر سياسية وثقافية، بعد أن بلغ عددها نحو 3.4 مليون فتوى تستنزف إمكانات الدولة المصرية سواء كانت مفيدة أو مهمة أو غير مفيدة وغير مهمة.
وأظهرت طريقة عرض كل مؤسسة دينية لإنجازاتها خلال العام الماضي أنها تتعامل مع كثرة الفتاوى بنوع من الفخر، واستعراض القوة والنفوذ، حيث أعلنت دار الإفتاء أن فتاواها شهدت نموا ملحوظا وتجاوزت المليون وأربعمئة فتوى، بينما رد مركز الأزهر للفتوى الإلكترونية بأنه أصدر أكثر من مليون وتسعمئة وستين ألف فتوى.
وبدا الأمر كأنه سباق بين المؤسستين، مهمتهما التوعية والمشاركة في تبني رؤية وسطية للدين، من أجل قطع الطريق على القوى المتطرفة التي تسخره لأغراضها. لكن توسع هذه الفتاوى يهدد مدنية الدولة، ويُكرس أسلمة المجتمع، ويقدم هدية لتيارات متشددة.
وتصدرت فتاوى العلاقات الأسرية والأحوال الشخصية الاستفسارات التي استقبلتها دار الإفتاء بنسبة 67 في المئة، بينما تنوعت فتاوى الأزهر حول فروع الفقه من عبادات ومعاملات وأحوال شخصية وقضايا الفكر وما يعرض للجمهور من شبهات تتعلق بالدين والدنيا، أي أن الأزهر والإفتاء يتحكمان في حياة فئة واسعة من المصريين.
وتتعارض الفتاوى المليونية مع جهود الحكومة لتكريس مدنية الدولة وتجفيف منابع التشدد في المجتمع.
وترى دوائر سياسية في القاهرة أن بناء دولة مدنية مهمة صعبة بحكم تعاطي مؤسسات دينية مع الفتاوى كما لو كانت مبررا لوجودها وثقلها في المجتمع، ما يتسبب في منغصات سياسية للسلطة، وقد تدفع فواتير باهظة لدعم مدنية الدولة، لأنها ستجد مقاومة شعبية حادة.
وتكمن المعضلة أمام السلطة في أن كل مؤسسة دينية تتعامل مع كثرة فتاواها على أنها انتصار شعبي لها، في ذروة البحث عن التخلص تماما من تركة جماعة الإخوان والسلفيين، عبر التحرر من هيمنة الرؤى الفقهية على عقول الناس، وبات الأزهر ودار الإفتاء يقومان بالفعل ذاته بلا ضوابط تمنع استغلال الأمية المجتمعية.
وأكد الكاتب المصري خالد منتصر أن التهافت على الفتوى يقدم إلى المتطرفين خدمة مجانية، حيث يعزفون على وتر الاحتياج المجتمعي المستمر لرجل الدين، ودوره كمرجعية في تفاصيل حياة الناس، وهو خطر حقيقي على الدولة، والتحدي يرتبط برفع منسوب الوعي، وكلما زادت الفتاوى غاب العقل والمنطق.
وأضاف لـ”العرب” أن “كثرة الفتاوى تقود إلى المزيد من سلفنة المجتمع لمجرد تحقيق انتصار لمؤسسة دينية، مع أن ذلك ليس انتصارا بل محاولة لإحياء آراء فقهية قديمة لرجال دين رحلوا وصاروا الآن في قبورهم، فأين الانتصار في ذلك؟ وهذا في حد ذاته خطر كبير، يدفع الناس إلى العيش في كنف العصور القديمة عقلا وفكرا وثقافة.”
يُحسب ضد الحكومة المصرية عدم التدخل لوضع حد لهيمنة الفتاوى وعدم إجبار المؤسسات الدينية على التقليل منها، لكن هناك من يرى أن استسهال الفتاوى الرسمية بديل أكثر أمانا عن رؤى تيارات متشددة، والظرف السياسي لا يسمح بوجود اجتهادات فقهية من عناصر متطرفة تقدم فتاوى مليونية موازية.
ويتم تبرير صمت الحكومة أحيانا بكونها تسعى لعدم الصدام مع وجود سلطة لمؤسسات دينية، وهو تفسير يسوّق له النظام المصري بهدف استقطاب الناس لمؤسسة دينية تعمل في كنف الدولة، مثل الأزهر ودار الإفتاء، للحصول على ردود شرعية لمشكلاتهم الحياتية.
فتاوى العلاقات الأسرية والأحوال الشخصية تصدرت الاستفسارات التي استقبلتها دار الإفتاء بنسبة 67 في المئة
وقام مجلس تنظيم الإعلام التابع للحكومة مؤخرا بإلزام القنوات التلفزيونية بعدم تقديم فتاوى على الهواء، لكن تظل الأزمة كامنة في أن المؤسسات الدينية نفسها لا تكل من التجاوب مع طالبي الفتوى مهما كانت استفساراتهم، أسرية أو اقتصادية أو طبية، وربما سياسية.
وأصبحت جهات الفتوى أقرب إلى الإدمان عند بعض المصريين، ويتعاملون معها كملاذ ضد أي فعل محرم أو مشكوك في صحته، لأن مؤسستي الأزهر ودار الإفتاء لديهما منصات رقمية وتقنيات للبث المباشر لتلقي الأسئلة طوال اليوم والرد عليها، ولكل مشكلة شخصية أو عامة حل ديني من وجهة نظر مقدم الفتوى.
كما أن مسؤولية تغييب الوعي مشتركة بين المؤسسات الدينية والحكومة، لأن الأخيرة أخفقت في رفع منسوب الوعي العام، وتركت الأمية تتغلغل في المجتمع، وبات هذا الملف يثير منغصات خطيرة للدولة، وثمة شريحة من الناس تصدق كل شيء، ومن السهل استقطابها من قبل أي رجل دين.
ومن شأن ترك المجتمع أسيرا لجهات الفتوى أن يجعل الدولة تعاني من تبعات الاستقطاب الديني في توقيتات حرجة، فأي مواجهة مع قضايا شائكة قد تقود إلى صدام بين مدمني القيود الشرعية والراغبين في الانفتاح، وهي معارك تتكرر في مصر نتيجة التعامل بقدسية مع كل ما هو فقهي، بينما تقف الحكومة أحيانا عاجزة عن التدخل.
وبقطع النظر عن أهداف كل مؤسسة دينية من الفتاوى المليونية، فإن ذلك يبدو محاولة للالتفاف على تجديد الخطاب الديني كملف يحظى بأولوية، بحيث تقدم كل مؤسسة نفسها على أنها تُجدد من خلال تصحيح مفاهيم الفتاوى، مع أن أغلب الآراء الفقهية التي يستند إليها رجال الفتوى مأخوذة من التراث ومن دون تنقيح أو تحديث.
ويقود ارتفاع الجرعة الدينية إلى مخاطر تتعلق بإعادة فتح نوافذ للمتشددين كي يقوموا بإحياء أنفسهم عبر مبارزة المؤسسات الدينية الرسمية التي تتكالب على استقطاب الناس، بما يجعل الدولة تدفع فاتورة باهظة لتطهير البلاد من التشدد.