التوظيف العمومي رهان جديد للسلطة التونسية بعد سنوات من الغلق

قيس سعيّد يبحث مع المدوري إعادة فتح باب التوظيف الحكومي.
الجمعة 2025/01/24
توجه الرئيس ينسجم مع مفهوم الدولة الاجتماعية

تونس - دعا الرئيس التونسي قيس سعيد إلى إعادة فتح باب التوظيف في عدد من المؤسسات الحكومية، وذلك بعد سنوات طويلة من قرار الغلق الذي كانت قد اتخذته حكومات ما بعد 2011 لأن الاقتصاد المحلي والمؤسسات لا يستوعبان عدد العاطلين عن العمل.

ويرى مراقبون سياسيون أن خطوة السلطة تأتي كرد جدّي على سياسات الحكومات المتعاقبة، التي أرادت الامتثال لإملاءات صندوق الدولي بالتقليص في عدد الموظفين الحكوميين وتسريح نسبة كبيرة منهم، وقالت إنه لا مجال للتوظيف الحكومي ولا وجود لأماكن شاغرة، معتبرة أن ذلك يتطلب موارد مالية جديدة وتقوية الاقتصاد والاستثمار في البلاد.

لكن قيس سعيد رفض في الماضي القريب شروط صندوق النقد الدولي بالتقليص من عدد الموظفين العموميين وبالتالي الضغط على كتلة الأجور واعتمد سياسة التعويل على الذات، وهو ما يمثل رهانا كبيرا قد يساهم في نجاح توجهاته.

ويضيف المراقبون أن السلطة التونسية حاولت ولا تزال معالجة الملفات الاجتماعية، كما أن الدعوة إلى فتح باب التوظيف الحكومي يأتي بعد سلسلة من القرارات اتخذها سعيد منذ وصوله إلى السلطة، وأهمها رفض التعامل مع الجهات الدولية المانحة والانكباب على حل الملفات الحارقة وخصوصا تلك الاجتماعية المتعلقة بوضع حدّ لآليات التشغيل الهشّ عبر تسوية وضعيات عمال الحضائر ووضعيات المدرسين المؤقتين (النواب).

نبيل الرابحي: الخطوة ستقطع مع إملاءات صندوق النقد الدولي
نبيل الرابحي: الخطوة ستقطع مع إملاءات صندوق النقد الدولي

وأكّد الرئيس التونسي في لقائه الأربعاء في قصر قرطاج برئيس الحكومة كمال المدوري على ضرورة مزيد مضاعفة الجهود في شتى القطاعات وخاصة في المجال الاجتماعي حتى يُرفع الضيم نهائيا عن ضحايا عقود من الإقصاء والتفقير، مشددا على أن المقاربات يجب أن تكون شاملة وفق فكر جديد ومفاهيم بدورها جديدة.

وأسدى رئيس الدولة تعليماته بإيجاد سُبل لتمويل الصناديق الاجتماعية وإعادة فتح باب الانتدابات في عدد من المرافق العمومية. ففي الوقت الذي تم فيه إثقال ميزانية الدولة بعدد من الانتدابات دون وجه حق، أُفرغت عديد المرافق الحيوية من الإطارات والأعوان ولم تعُد قادرة على إسداء الخدمات المطلوبة للمواطنين.

كما شدّد قيس سعيد على أن مؤسسات الدولة كلها يجب أن تعمل بصفة متناغمة متجانسة، هذا فضلا عن أن كل مسؤول يجب أن يعمل على تذليل الصعاب ويُبادر باقتراح الحلول ويعمل على تحقيقها في أقرب الآجال، لافتا إلى أن سياسة الدولة في الداخل والخارج تُدار بمؤسساتها النابعة من إرادة الشعب التونسي صاحب السيادة، مضيفا أنّ الشعب التونسي اختار أن يصنع تاريخاً جديدا وأن يسير إلى الأمام لا أن يعود إلى الوراء.

ويرى متابعون للشأن التونسي أن الدعوة لفتح باب التوظيف الحكومي مجددا رهان اجتماعي وسياسي كبير، ذلك أن قيس سعيد يريد تحقيق الاستقرار المرتهن خصوصا بحلحلة الملفات الأساسية، وفي مقدماتها التشغيل، التنمية الجهوية والكرامة الوطنية.

وقال المحلل السياسي نبيل الرابحي إن “هذه الخطوة لها عدة اتجاهات، وأولها القطع مع إملاءات صندوق النقد الدولي، الذي طالب بالتقليص في كتلة الأجور، وهي أيضا رسالة طمأنة إلى القطاع الخاص بأن الدولة هي قاطرة الاقتصاد وبناء المشاريع الكبرى.”

وأكد في تصريح لـ”العرب” أن “الرئيس سعيد دعا سابقا إلى مراجعة مجلة الشغل والقطع مع آليات التشغيل الهشّ، وهو الآن بصدد تحقيق ما وعد به،” لافتا إلى أن “هناك العديد من المؤشرات التي كانت سلبية وتحسنت تدريجيا من بينها الميزان التجاري الذي أخذ في التعافي وتقلّص نسبة التضخّم، وهي مؤشرات تنبئ بالخروج من مرحلة الركود الاقتصادي.”

مراد علالة: توجه الرئيس ينسجم مع مفهوم الدولة الديمقراطية الاجتماعية
مراد علالة: توجه الرئيس ينسجم مع مفهوم الدولة الديمقراطية الاجتماعية

وكثيرا ما يشدد قيس سعيد على أن الإصلاحات التي تقوم بها البلاد يجب أن تكون إصلاحات وطنية خالصة تنبع من إرادة الشعب، ويكرّر في العديد من المناسبات أن لتونس الكثير من المقدرات ولكن هناك من أفرغ خزائن الدولة، بهدف ضرب الدولة من الداخل.

وفي مناسبات سابقة، أعرب سعيد عن رفض ما أسماه “إملاءات” صندوق النقد الدولي، محذرا من أنها “لو طبقت ستهدد السلم الاجتماعي،” وأكد “ضرورة اعتماد التونسيين على أنفسهم.”

وبدا واضحا أن السلطة تركّز على تقديم إنجازات اجتماعية مع بداية العهدة الرئاسية الثانية، تكريسا لدور الدولة الاجتماعي، بعد إجراءات الخامس والعشرين من يوليو 2021، في إطار الحفاظ على التوازنات الاجتماعية.

واعتبر الكاتب والمحلل السياسي مراد علاّلة أن “الرئيس التونسي تحدث كثيرا عن العطالة التي تمرّ بها الإدارة التونسية، وذلك بسبب التعيينات السابقة التي هي اليوم في حاجة إلى التطعيم والدعم بكفاءات جديدة.”

وأوضح لـ”العرب” أن”هذا التوجه ينسجم تماما مع مفهوم الدولة الديمقراطية الاجتماعية التي يريد أن يكرسها الرئيس، وهو مطالب في ولايته الثانية بتحقيق الإنجازات، وبالتالي لا بدّ من الدخول في جوهر الموضوع والبحث عن حلول عملية، عبر تقوية الإدارة وسدّ الشغورات في المؤسسات العمومية.”

وأشار مراد علاّلة إلى أن “الخطوة لها كلفتها المادية، ولا نعلم كيف سيتم التعامل معها، وهي تحمل رهانا على المستقبل مما سيساهم في نجاح مشروع الرئيس سعيد.”

واشترط صندوق النقد الدولي انخراط تونس في برنامج إصلاح اقتصادي يشمل خفض دعم الطاقة والسلع الغذائية، إلى جانب خفض كلفة الأجور العامة وإعادة هيكلة الشركات الحكومية.

وشهدت العلاقة بين الطرفين سجالا منذ 2022، مع تقدم الدولة لطلب برنامج إصلاحات اقتصادية وقرض مالي من الصندوق، إلا أنه شهد عقبات مرتبطة بشروط وضعها الأخير، ورفضتها تونس.

4