الأزمة الاقتصادية تزيد انتشار التبرعات المشبوهة في مصر

القاهرة - أكد تحرك برلماني في مصر مؤخرا ضد انتشار جمعيات خيرية تجمع تبرعات لمساعدة الفقراء، أن الظروف الاقتصادية الصعبة للكثير من المواطنين منحت فرصة ثمينة لجني أموال من جانب بعض المؤسسات الأهلية في غفلة من الحكومة.
وطالب عدد من أعضاء البرلمان باستدعاء مسؤولي وزارة التضامن الاجتماعي لسؤالهم عن التخاذل في رقابة أموال التبرعات، وصعود أسماء جمعيات خيرية غير مسجلة في دفاتر الحكومة، تعمل في مجال العمل الأهلي، والآليات التي يتم من خلالها توزيع تلك الأموال في ظل عدم وجود رقابة صارمة من السلطات المحلية.
ويُمكن بسهولة اكتشاف العشرات من الجمعيات الخيرية التي تحمل أسماء لها صبغة دينية تقوم بجمع تبرعات بحجة مساعدة الفقراء، في ظل ظروف معيشية صعبة تواجهها البلاد، دون أن يتم التأكد من هوية تلك الجمعيات، والطريقة التي تأسست بها، ومصير الأموال التي تُجمع من المقتدرين.
وهناك قنوات فضائية متخصصة في التسويق لمؤسسات خيرية تدّعي أنها تساعد الفقراء في سد احتياجاتهم، وهي فضائيات شعبية تبث أفلاما ومسلسلات طوال اليوم، ولا تتبع الحكومة ومؤسساتها، وأغلب إعلاناتها عن التبرعات.
وعكست الظاهرة إلى أي درجة يظل الفقراء في مصر والمتاجرة بظروفهم حلقة سهلة تستثمرها بعض الجهات لجني مبالغ مالية طائلة، لكن الجديد في الأمر أنها تحمل أسماء إسلامية لدغدغة مشاعر الناس وتقديم نفسها على أنها لا تحتمل الشك.
ونجحت الحكومة في غلق منافذ جمع التبرعات من خلال المساجد الشرعية التي كان يسيطر عليها إخوان وسلفيون، بعد أن سيطرت على تلك الجمعيات وأدرجتها تحت مظلة رسمية، وقامت أيضا بحظر التبرعات في المساجد، لكن يبدو أن بعض العناصر لم تستسلم وقررت تأسيس جمعيات بمسميات أخرى.
ما يثير امتعاض البعض أن الحكومة المصرية لا تتعامل بحسم مع ظاهرة التجارة بالدين، رغم انتشار الجمعيات الخيرية ذات الصبغة الإسلامية والإصرار على توظيف الفقر والظهور في نظر الشارع على أنها بديل أكثر ثقة ومصداقية ونزاهة من الجهات الرسمية المختصة بدعم البسطاء.
وتعتمد الجمعيات المشكوك في أهدافها على أحد رجال الدين المشهورين للترويج لها ودعوة الناس إلى التبرع لها بلا رقابة دقيقة من الجهات المختصة، ما يجعل بعض المواطنين يتعرضون لخديعة عندما يكون جني الأموال عبر اللعب على وتر التدين وفعل الخير كوسيلة سهلة للاحتيال.
ويرى مراقبون أن تشدد الحكومة مع الجمعيات الأهلية في جمع تبرعات لأسباب سياسية، مقابل التساهل مع المتاجرة بالفقر عبر جمعيات دعوية وأخرى تستهدف التربح، يعبر عن تخبط رسمي في التعامل مع العمل الخيري، بما يقود إلى انتشار الاحتيال من مدخل الأعمال الخيرية.
ويصعب على أي مؤسسة أهلية أن تتحرك بأريحية إذا كان ضمن برنامجها ما يرتبط بالشق الحقوقي أو السياسي، حتى لو كانت أهدافها نبيلة، خشية أن يتسلل معارضون للحكومة إلى المشهد، لكن المعضلة في ترك الساحة لجمعيات خيرية مشكوك في نواياها وتوجهاتها وأهدافها، تقوم بجمع تبرعات ولا تتعرض لنفس القيود.
وتسعى الحكومة المصرية لتحسين صورتها في نظر البسطاء من خلال برامج متعددة للحماية الاجتماعية، بينها تقديم مساعدات شهرية للمدرجين ضمن منظومة “تكافل وكرامة” للحماية الاجتماعية، وهؤلاء يصل عددهم إلى أكثر من 12 مليون شخص، فضلا عن التوسع في مشروع “حياة كريمة” لتحسين الظروف المعيشية للبسطاء.
الظاهرة عكست إلى أي درجة يظل الفقراء في مصر والمتاجرة بظروفهم حلقة سهلة تستثمرها بعض الجهات لجني مبالغ مالية طائلة
وما يلفت الانتباه أن الكثير من الجمعيات الخيرية التي ظهرت على الساحة فجأة تتاجر بهموم وأوجاع الفقراء المرتبطة بنقص الخدمات والمرافق الأساسية، مثل مياه الشرب والكهرباء والصرف الصحي وحفر آبار المياه الجوفية ومساعدة البسطاء على تعليم أولادهم ورعاية المطلقات والأرامل والأبناء يتامى الأب.
ويتناقض كل ذلك مع قرارات الحكومة برفع جميع الأعباء المالية عن أبناء البسطاء في قطاع التعليم، حيث إنها تلحقهم في المؤسسات التعليمية دون مقابل، مراعاة لظروفهم الاجتماعية، كما أنها أطلقت مشروع “تكافل وكرامة” خصيصا، لتوفير جميع الخدمات للمناطق الفقيرة من مياه وكهرباء ومدارس ومستشفيات.
وتقود تلك الظاهرة إلى أن مسألة استغلال ظروف الفقراء والتربح منها لا تزال معركة معقدة تواجهها الحكومة المصرية، لكن بعض مؤسساتها تتحمل جزءا من المسؤولية بترك الساحة أمام جمعيات مشكوك في توجهاتها، ودعاة يتربحون من وراء التدين الشعبي، ولا يتم التحرك لمحاسبة هؤلاء وبحث أوجه إنفاق الأموال.
وقال أستاذ علم الاجتماع السياسي سعيد صادق إن استمرار نفس معدلات الفقر مع كثرة الجمعيات الخيرية مثير للشبهات، والخطر الأكبر عندما تتعلق التبرعات بغطاء ديني يدغدغ مشاعر الناس، بشكل يدفعهم إلى عدم السؤال عن مصير أموالهم، بدعوى أن المؤسسة تحمل صبغة إسلامية.
وأضاف لـ”العرب” أن إصرار بعض المؤسسات الخيرية على أن تكون وسيطا بين الغني والفقير، ظاهرة خطيرة، ودور الحكومة أن تبحث وراء خلفية كل جمعية قبل أن يتم تشويه صورة العمل التطوعي في مصر، وليس معقولا أن يتبرع الناس ويتركون الجمعية تتصرف كما تشاء بناء على ثقة شفوية متبادلة.
الحكومة المصرية تسعى لتحسين صورتها في نظر البسطاء من خلال برامج متعددة للحماية الاجتماعية
وجزء من المشكلة أيضا أن منسوب الوعي عند شريحة معتبرة من المصريين في مسألة التبرعات، لا يزال منخفضا، ودليل ذلك أن هناك شبهات فساد مالي وإداري طالت مؤسسات خيرية كبرى خلال الأشهر الماضية، وتمت إدانتها من جانب الجهات الرقابية، ورغم ذلك استمرت التبرعات لجمعيات متهمة بالتلاعب.
كما أن الحكومة لديها تحالف وطني للعمل الأهلي التنموي يضم العشرات من المؤسسات الخيرية وكل التبرعات الخاصة به تخضع لرقابة صارمة وتتم متابعة أوجه الصرف بحسم، لكن تظل هناك حساسية لدى الكثير من المتبرعين من فكرة التبرع لمؤسسة خيرية تحت يد الحكومة، خشية استثماره لأهدف تنموية.
ويميل أغلب المصريين إلى إيداع تبرعات في مساعدات مرتبطة بالفقر والغذاء والعلاج من الأمراض وبناء المساجد وترميم منازل غير المقتدرين، وشراء مستلزمات الفتيات المقبلات على الزواج من المنتميات إلى أسر بسيطة، وهي نوعية الملفات التي تلعب عليها بعض الجمعيات الخيرية، لاسيما التابعة لعناصر إسلامية.
وترتبط المعضلة بأن الجمعيات التي تتاجر بالظروف الاقتصادية تتعمد جمع التبرعات بشكل يدوي، أو عبر حسابات خاصة بأصحابها، دون تسجيل بياناتها وعدد المستفيدين منها بالرقم القومي، أو تحديد حجم الأموال التي يتم إنفاقها لمراقبة أوجه الصرف، لمنع أي تلاعب أو اختلاسات غير مشروعة.
ويؤكد متخصصون في العمل الأهلي بمصر أن تدني ثقة الناس في المؤسسات الخيرية المرتبطة بالحكومة، ساعد على انتشار ظاهرة الاتجار بظروف الفقراء، حتى أصبحت بين نارين، فهي مطالبة بالتضييق على كل ما يتعلق بالتبرعات كحق للمتبرع والمستفيد دون أن تظل متهمة بمحاولة السطو على الأموال.
ويظل الحل في فتح الباب لتقنين أوضاع الجمعيات الخيرية غير المرخصة، كما أوصى نواب في البرلمان، مع عدم التشدد في شروط التراخيص، المهم أن تكون هناك آلية محددة وواضحة تتيح مراقبة الأموال ومساعدة الدولة لتخفيف حدة احتقان الفقراء ولكن تحت رقابة صارمة تضمن عدم المتاجرة بهم.
وتظل القضية الأشهر من نوعها قبل عامين مرتبطة بضبط قضية فساد كبرى داخل جمعية خيرية كانت تجمع تبرعات لبناء مساجد في قرى فقيرة، وتم الكشف عن اختلاس بعض قيادات تلك الجمعية قرابة 21 مليون جنيه تم إنفاقها على زوجاتهم وشراء سيارات فارهة وممتلكات خاصة وشاليهات بمناطق سياحية.
وهذه ليست المرة الأولى التي ينتفض فيها أعضاء داخل مجلس النواب المصري ضد ما يصفونه دائما بشبهات الفساد الموجودة في المؤسسات الخيرية، أمام غياب الرقابة على أموال التبرعات التي حددها القانون، حيث سبق وطالبوا بحتمية فرض آليات أكثر صرامة للرقابة على هذه الأموال وتحصيلها إلكترونيا.