القاهرة تتمسك بدعم طفلين لإجبار الأسرة على خفض الإنجاب

توظيف الدعم للضغط على المسرفين في الإنجاب يصطدم بميراث معقد.
السبت 2024/12/14
طفلان فقط لكل أسرة شعار يتحول إلى قانون

تواجه الحكومة المصرية الزيادة السكانية باقتصار الدعم على طفلين فقط حتى تجبر الأسر على خفض الإنجاب، وهو ما يرفضه متابعون للملف ويرون فيه تداعيات أشد خطورة على الزيادة السكانية. ويرى مستشارو العلاقات الأسرية أن على الحكومة البدء بتغيير ثقافة المصريين تجاه كثرة الأبناء بخطاب بعيد عن التخويف من المستقبل، لأن اختزال الحل في توفير حماية اجتماعية لطفلين فقط لن يوقف الإنجاب.

القاهرة - ترجمت الحكومة المصرية شعار “2 كفاية”، أي طفلان فقط لكل أسرة، إلى قانون. وأعلنت اقتصار الدعم النقدي الموجه إلى الأسر البسيطة على طفلين فقط، ما يعني عدم وجود مساعدات تخص الطفل الثالث والرابع والخامس…، ضمن توجه يستهدف الضغط على الأسر والأزواج الجدد للاكتفاء بإنجاب طفلين.

ومرر مجلس النواب مؤخرا قانون الضمان الاجتماعي الذي تقدمت به الحكومة، ويخص تنظيم الدعم النقدي للأسر الفقيرة، وتضمن مادة خاصة تقصر تقديم المساعدة على طفلين فقط، رغم اعتراضات بعض النواب، لكن الحكومة رأت أن استسهال تقديم الدعم يشجع الزوجين على الإنجاب غير الرشيد.

يصل عدد سكان مصر إلى نحو 107 ملايين نسمة، ويشكل ملف الزيادة المطردة في معدلات الإنجاب هاجسا للرئيس عبدالفتاح السيسي، ولا تزال الحلول الواقعية لضبط النمو السكاني غائبة، بينما تتمرد بعض العائلات على كل توجه يجري إقراره كجزء من الحل، بالدعم أو بوسائل تنظيم الإنجاب.

وتهدف خطة الحكومة باقتصار الدعم على طفلين إلى تخويف الأسر التي تتمسك بالعناد وترفض خفض معدلات الإنجاب، بحيث يكون لدى كل عائلة طفلان فقط، ومن زاد على ذلك من الأبناء سوف يواجه صعوبات في حياته، من حيث الالتحاق بالتعليم والحصول على خدمات مجانية ودعم حكومي مالي وشهري.

ويتقاطع هذا التوجه مع شكوك مجتمعية متصاعدة في التزام الحكومة بتقديم مزايا عينية أو نقدية للأسر التي تلتزم بإنجاب عدد محدود من الأبناء، ولو طفلين فقط، في ظل تسريع الدولة خطواتها للانسحاب من المؤسسات الخدمية وتقلص فاتورة المساعدات، ولديها نية غلق الملف لتقضي على ثقافة الدعم.

ومع كل خطاب رسمي يرتبط بالإنجاب تتعمد الحكومة ملامسة الواقع المعيشي السيء للكثير من الأسر بالعزف على وتر أحوالها الاجتماعية واستقطابها بحوافز مالية، وتعتقد أن اقتصار الدعم على طفلين يدفع باقي الأسر إلى الالتزام، دون اكتراث بالموروثات الدينية والثقافية التي ضاعفت الإنجاب.

عنان حجازي أشارت إلى معضلة ترتبط بالفجوة الشاسعة بين الأسر البسيطة والحكومة بشأن جدوى الإنجاب
◙ عنان حجازي أشارت إلى معضلة ترتبط بالفجوة الشاسعة بين الأسر البسيطة والحكومة بشأن جدوى الإنجاب

وهذه ليست المرة الأولى التي تُخاطب فيها الحكومة الأسر بأسلوب محفز على الإنجاب الرشيد، وسبق أن أعلنت أنها ستدخر ألف جنيه (20 دولارا) سنويا لكل امرأة متزوجة والتزمت بإنجاب طفلين فقط على أن تقوم الأم بتحصيل العائد الإجمالي مع بلوغها 45 عاما، ويسقط هذا الحق إذا أنجبت طفلا ثالثا ورابعا…

وثمة معضلة أكبر تواجه الحكومة في هذا الملف، إذ ترى أن المشكلة الحقيقية تكمن في الأسر البسيطة المستهدفة من الدعم، حيث تنجب الكثير من الأبناء، وفي المقابل تتعامل نفس الأسر مع كثرة الإنجاب على أنه “رزق”، وكلما زاد عدد الأبناء جنت العائلة المزيد من المال من خلال توظيف أولادها في حرف.

ومن شأن استمرار نفس القناعات عند البسطاء المستهدفين من قانون الضمان الاجتماعي، أن يخرج الحكومة من تلك المعركة بلا نتائج إيجابية، لأنها وإن اكتفت بدعم طفلين كوسيلة عقابية للمسرفين في الإنجاب، فإن الأسر لن تخسر الكثير لأنها لا تعتمد على مساعدات الحكومة، بل على عمل أولادها.

وهناك مثل شعبي دارج عند الكثير من الأسر في الأحياء الشعبية والمناطق الريفية بمصر، وهو أن “كل طفل يأتي برزقه،” وهي ثقافة عجزت الحكومات المتعاقبة عن تغييرها، ومهما كانت عقوبة قصر الدعم على اثنين، فإن بعض الأسر لديها قناعة بأن قصر الإنجاب على اثنين لن يُحسن الوضع المعيشي.

وأشارت الاستشارية الأسرية في القاهرة عنان حجازي لـ”العرب” إلى معضلة أخرى ترتبط بالفجوة الشاسعة بين الأسر البسيطة والحكومة بشأن جدوى الإنجاب، لأن كل طرف يتعامل مع زيادة المواليد من وجهة نظره، فالعائلات تراهم دعما اقتصاديا، والحكومة تعتبرهم أزمة اقتصادية، دون تقريب المسافات بين الطرفين.

وتوجد حاجة ملحة، وفق حجازي، وهي البدء في تغيير ثقافة المصريين تجاه كثرة الأبناء بخطاب بعيد عن التخويف من المستقبل، لأن اختزال الحل في توفير حماية اجتماعية لطفلين فقط لن يوقف الإنجاب، في ظل شغف شريحة من المصريين بكثرة المواليد دون النظر إلى الماديات، وهذه ثقافة متجذرة في وجدانهم.

ويبدو أن أي خطاب رسمي يوجّه إلى الناس قائم على توظيف لغة المال لن يقنع الأسر المسرفة في الإنجاب، ما لم تكن هناك خطة تشاركية بين الشارع والحكومة حول الهدف نفسه، بحيث يكون الناس داعمين للدولة في توجهها نحو خفض الزيادة السكانية لأسباب اقتصادية واجتماعية وأمنية أيضا.

كما أن هناك شبه اقتناع عند بعض الأزواج والزوجات الجدد بضرورة اقتصار الإنجاب على طفلين فقط، بسبب ارتفاع معدلات الغلاء وسوء الأوضاع المعيشية، لكن تلك الثقافة لا تزال مقتصرة على شريحة بعينها قررت من تلقاء نفسها خفض الإنجاب لأسباب ذاتية بعيدا عن الالتزام بوجهة نظر الحكومة.

◙ متابعون للملف يرون أن تداعيات التهديد برفع الدعم عن الأبناء الثالث والرابع والخامس قد تكون أشد خطورة على الزيادة السكانية

وشهدت السنوات الأخيرة انسحاب الحكومة من الخدمات الأساسية، مثل التعليم، وقررت زيادة المصروفات، إضافة إلى زيادة أسعار السلع التموينية، وزيادة كلفة بعض الاحتياجات، من غاز وكهرباء ومياه شرب، وتقليل الخدمات الطبية المجانية. وأصبحت كل خدمة تحتاج إلى وفرة مالية عند الأسرة.

ونتج عن هذا الانسحاب اقتناع الكثير من الأسر بأن قصر الدعم على طفلين لن يجلب منافع ملموسة على مستوى المساعدات التي لا توفي بالحد الأدنى من الاحتياجات، لكنه قد يزيد الأعباء المرتبطة بالطفل الثالث والرابع والخامس، ويؤثر على حقوقهم الأساسية، من تعليم وصحة وتوظيف وسكن.

ومهما كانت الحكومة محقة تظل المشكلة كامنة في أن الشريحة الكبيرة المستهدفة بعقوبة الإسراف في الإنجاب (البسطاء)، أصبحت تتعامل مع تعليم الأبناء أو علاجهم بشكل آدمي على أنهما من الحقوق الشكلية، والأهم أن يمتهن الابن حرفة منذ الصغر، ليجلب المال من أجل مساعدة أسرته على الوفاء باحتياجاتها.

ونفس الشريحة لا تزال مقتنعة بأن الابن وحده من يصنع مستقبله بنفسه، والحكومة لا تساعده في شيء، فالتعليم والصحة والسكن وغيرها من الأساسيات، أصبحت مدفوعة الكلفة، والحق الوحيد الذي يضمن حياة كريمة تحسين المستوى المعيشي للأسر بأي طريقة بعيدا عن الدولة التي تقدم مساعدات هزيلة.

ويرى متابعون للملف أن تداعيات التهديد برفع الدعم عن الأبناء الثالث والرابع والخامس قد تكون أشد خطورة على الزيادة السكانية، لأن الأسرة الفقيرة قد لا تعلم أبناءها ليتحولوا بعد ذلك إلى أمّيين يؤمنون بكل الثقافات السلبية، من زواج مبكر إلى ختان الإناث، وتصبح تلك العادات متوارثة لسنوات مقبلة.

ويعتقد هؤلاء المتابعون أن الحكومة مطالبة بالنزول إلى الشباب والفتيات كأرباب الأسر في المستقبل القريب، لتغيير ميراثهم الثقافي الخاطئ عن الإنجاب، عبر خطاب تنويري مقنع يجعلهم يتراجعون عن فكرة العزوة، لأن القوانين وحدها لا يمكن أن تغير التصرفات والسلوكيات، بقدر ما تلين مواقع العائلات بالوعي والفهم والمعرفة.

ومن شأن النزول إلى الميدان والاحتكاك بأرباب الأسر في المناطق السكنية ذات الكثافة المرتفعة أن يغيرا المعتقدات والأفكار البالية عندهم بشأن استسهال الإنجاب، بعيدا عن فكرة الترهيب والحرمان من الخدمات بسبب كثرة الأبناء، لأن مثل هذه الرسائل تجلب نتائج عكسية وتؤسس لتمرد أسري ضد الحكومة.

15