الحكومة المصرية تصر على هدم مبان تاريخية غير عابئة بالانتقادات

القاهرة- جلبت الحكومة المصرية على نفسها غضبا شعبيا وبرلمانيا وحزبيا ونقابيا بعد أن تمسكت بإزالة مبانٍ وقباب تاريخية في منطقة وسط القاهرة، بحجة التطوير وإنشاء محاور مرورية، رغم إدراكها أن هذا التصرف يرفضه مصريون كثيرون.
وأثارت صور ومقاطع فيديو حول هدم قبة مستولدة محمد علي باشا، بإحدى المقابر التاريخية في القاهرة، سخطا واسعا، دون أن تُعلّق الحكومة أو تتدخل لشرح الأسباب، أو محاولة تهدئة غضب شعبي تصاعد في الفضاء العام.
وتقدّم عدد من نواب البرلمان بأسئلة عاجلة إلى رئيس الحكومة مصطفى مدبولي لمحاسبة المسؤولين عن هدم بعض المباني التراثية، والمطالبة بالوقف الفوري لأعمال الإزالة في القاهرة التاريخية مهما كانت هناك رؤى وخطط تنموية للمنطقة.
واتهم برلمانيون وزارة الآثار بالإخفاق في الحفاظ على التراث المصري، وطالت الاتهامات دوائر حكومية أخرى بالعمل دون تخطيط والقيام بممارسات مخالفة للقانون والمبادئ الدولية المرتبطة بالحفاظ على التراث وعدم الإضرار به.
واستثمرت أحزاب معارضة عناد الحكومة للقفز على المشهد، والاصطفاف مع رافضي العبث بالتراث، بينها حزب المحافظين الذي أعلن تضامنه مع ما وصفه بـ”الغضب الشعبي”، وطالب الحكومة بتحمل مسؤوليتها عن تشويه الآثار.
وقررت نقابة المهندسين تشكيل لجان عاجلة من الخبراء المعماريين المختصين ومن كل ذي صلة لبحث هدم المباني ذات الطابع التاريخي والمعماري المميز، مع التعهد بتقديم حلول للمسارات المرورية بعيدا عن المنطقة، تمهيدا لتحويلها إلى مزار سياحي.
ولم تسلم الحكومة من غضب إعلاميين محسوبين عليها، بينهم لميس الحديدي التي استعارت أحد أبيات قصيدة “مصر تتحدث عن نفسها” للشاعر حافظ إبراهيم: “وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبني قواعد المجد وحدي”، ثم قالت “ووقفوا بعد دهر ينظرون كيف يهدم أبنائي تاريخي وذاكرة السنين.. هكذا تتحدث مصر عن نفسها”.
وارتبطت حدة الغضب بكون الحكومة لم تكترث به، وبدت متمسكة بالمضي في هدم مبانٍ ومقابر تراثية، بدعوى التطوير والتحديث وتشييد طرق وجسور للحد من الأزمة المرورية التي تعاني منها بعض مناطق القاهرة.
وأكد معماريون أن السماح للجرافات بإزالة مبانٍ تراثية يقدم صورة سلبية عن الجمهورية الجديدة، بفعل استسهال بعض المسؤولين هدم المباني بذريعة بناء واقع متحضر، ما قد يغذي العداء ضدها من فئات عديدة.
واتفق مؤيدون ومعارضون للسلطة على حتمية الحفاظ على التراث المصري ولا يجب أن يأتي التطوير على حساب ميراث الأجداد، فيما تصاعدت المطالبات بتدخل عاجل من الرئيس عبدالفتاح السيسي لوقف الفوضى.
وترى دوائر سياسية أن احتدام الغضب ضد هدم مبانٍ تراثية مرتبط بحالة احتقان موجودة عند شريحة من المصريين، تعتقد أن الحكومة تتفنن في استفزازهم بإجراءات اقتصادية صعبة، أو القيام بتصرفات غير مبررة.
وما أثار استغراب البعض أن الحكومة وهي تقوم بهدم مبانٍ مصنفة كأثر أو ذات طابع تاريخي وتعد جزءا من هوية المصريين تقوم بترشيح وزير السياحة السابق خالد العناني لمنصب أمين عام منظمة اليونسكو المعنية بالحفاظ على التراث.
وإذا لم تكن هناك رؤية لدى المرشح المصري لليونسكو والحكومة تضمن عدم المساس بالمناطق التاريخية، ففرصته في المنافسة صعبة، وقد يصطدم بتراجع الدعم له من جانب جهات عديدة في العالم.
وقال جمال زهران أستاذ العلوم السياسية بجامعة السويس (شرق القاهرة) إن هدم مناطق لها رمزية ولو بغرض تنموي يشوّه صورة مشروعات قومية، لأن الناس لا يتقبلون أيّ مبرر مرتبط بإزالة تراث للتطوير، ولن تتحقق مكاسب سياسية أو اجتماعية.
وأشار لـ”العرب” إلى وجود حاجة ملحة للتوقف عن استفزاز الناس بتصرفات يمكن تجنبها، لأن الفترة الراهنة تتطلب قدرا من الحنكة السياسية في التعامل مع ردة فعل الشارع، والمساس بالتراث والتاريخ والهوية خط أحمر عند بعض المصريين.
ولفت إلى أنه من الصعب إقناع الرأي العام بجدوى مشروع قومي تأسس على حساب منطقة تراثية ارتبطت وجدانيا بالمشاعر الوطنية، وعلى الجهات الرسمية استيعابها، قبل أن تتمادى في المزيد.
وجزء من أزمة بعض الجهات الحكومية مع المباني التاريخية أنها مع كل غضب شعبي مرتبط بهدم جزء من منطقة أو مبني قديم تبرر موقفها بعدم وجود ما يثبت الأثرية، أي عدم تسجيل المنطقة أو المبنى لدى وزارة السياحة والآثار المصرية.
لكن هناك سوء تقدير لدى بعض المسؤولين حول فكرة الأثر، لأن التعامل مع التاريخ من زاوية أنه مسجّل أم لا يمكن اعتباره عذرا أقبح من ذنب، فقد تكون هناك قرارات صدرت بالتسجيل ولم تنفذ رسميا، والعبرة في الأثر بما يرسخ في عقل المصريين.
وتجاهد الحكومة للتوسع في إنشاء طرق ومحاور مرورية وجسور ضخمة لحل أزمة الكثافات المرورية في القاهرة، من دون أن تتحدث أو تشرح للرأي العام، أو تتوقف عندما تجد الغضب يتصاعد، بما يشوّه أيّ إجراء تنموي أو مشروع قومي.
وقاد بعض العناد إلى أن تتأثر صورة الكثير من المشروعات عندما تُقام على أنقاض مناطق لها رمزية تاريخية ودينية عند المصريين، لتجد الحكومة نفسها في مأزق، فلا هي تتراجع أو تتحرك لتهدئة غضب الناس.
ولدى شريحة من المصريين تحفظات على التوسع في المحاور المرورية والجسور بشكل عام، لأنها في نظرهم ليست ذات أهمية قصوى في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، وجلبت على الناس أزمات أكبر على المستوى المعيشي.
ولا تضع بعض الجهات الرسمية تلك المعضلة في الحسبان، وتتمادى في استفزاز الرأي العام عندما تصر على إنشاء طرق في بعض المناطق التاريخية بما يستدعي هدم مبانٍ لها رمزية، لتظهر كأنها تتحدى الشارع، ولا تعيره اهتماما.
وتتعلق المشكلة العميقة بعدم ترك الحكومة لأنصارها فرصة للدفاع عن توجهاتها التنموية، لأنها لامست وترا عاطفيا عند بعض المصريين، بإزالة جزء من تاريخهم.
وترك تجاهل الهيئات المعنية بالآثار انطباعات سلبية عن الحكومة التي تحدت الرأي العام بعدم المساس بأيّ أماكن تاريخية، وقالت إنها مستعدة للدخول في نقاش يؤكد حسن نواياها والانفتاح على كل الآراء، بما فيها الرافضة لسياستها.
وظهرت بعض الدوائر الحكومية وكأنها تنسف الخطط التوعوية التي ينشدها الرئيس السيسي لتكريس قيم الولاء وإحياء الروح الوطنية عند الشباب، كجزء من إستراتيجيته التي يرغب في ترسيخها عن أهداف الجمهورية الجديدة.