تسول العمل.. ظاهرة جديدة تسيء لسمعة الفن المصري

مات العديد من الفنانين الكبار وهم فقراء وعاطلون عن العمل، ذلك ما تؤكده السير والدراسات الراصدة لتاريخ الفن العربي، واختار البعض منهم الفاقة والبطالة على أن يتسول العمل، لكن الأمر في زماننا انقلب، حيث صرنا نرى العديد من الممثلين يستثمرون في السوشيل ميديا كوسيلة لإظهار معاناتهم والمطالبة بتشغيلهم.
القاهرة - انتشرت ظاهرة جديدة داخل الوسط الفني المصري مؤخرا، تتمثل في لجوء عدد من الفنانين الكبار والشباب إلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي للشكوى من ضيق أحوالهم المادية، بسبب تجاهل الاستعانة بهم في الإنتاج الدرامي الجديد، في ظاهرة وصفت بأنها “تسول” للعمل من قبل الممثلين.
ووصل الأمر بالفنانة حنان شوقي، التي قدمت أدوار بطولة في العديد من المسلسلات خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي لمناشدة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي للتدخل لإنصاف الفنانين الذين يعانون من التجاهل والاستبعاد بالوسط الفني، فيجبرون على ملازمة المنزل.
ولم تعد المسألة فردية، بل تكاد تشكل ظاهرة، وتمثل خطرا يداهم سمعة الفن المصري في الخارج لأكثر من سبب، منها تراجع قيمته كواحد من أهم أدوات القوة الناعمة المصرية طوال ما يقرب من قرن كامل، فضلا عن اهتزاز مكانة الفنانين المصريين أنفسهم الذين لا يخجلون من الحديث العلني عن سوء أحوالهم الاقتصادية أو إبعادهم عن المشاركة في الأعمال الفنية، منهم أحمد عزمي وكريم الحسيني ومها أحمد، والذين تحولوا لمادة دسمة في الوسط الفني.
وهناك خطر دخول أطراف خارجية على خط الأزمة لإنتاج أعمال درامية تستوعب الفنانين العاطلين ما يهدد مستقبل صناعة الدراما المصرية، خاصة أن تكرار نفس الوجوه في معظم الأعمال قد يؤدي إلى تكرار الأفكار التي تطرحها تلك الأعمال وبالتالي الوقوع في شرك التنميط.
تقليل للتنوع والثراء
يعترف الناقد الفني طارق الشناوي بأن صناعة الدراما تركز بشكل مفرط على عدد محدود من الأسماء، ما يؤثر على تنوع المحتوى الفني، واعتبر أن إقصاء بعض الفنانين وعدم الاستعانة بهم يقلل من التنوع والثراء الذي كان يميز الدراما المصرية سابقا، مشيرا إلى أن لجوء بعضهم إلى مواقع التواصل الاجتماعي يعكس حجم الأزمة التي يمرون بها وعمق شعورهم بأنهم مهمشون.
ويمكن تقسيم الظاهرة إلى جزأين، الأول يتعلق بالممثلين الشباب العاطلين عن العمل، وتحدث بعضهم أن مشكلتهم في اقتصار الشركة التي تحتكر الإنتاج الدرامي في مصر على الاستعانة بعدد محدود من الفنانين “المرضّي عنهم” بحسب تعبيرهم، وفي ما يخص الجزء الثاني متعلق بالفنانين الكبار سنا وقيمة فنية، وهؤلاء يشكون من تجاهلهم من قبل المنتجين، ويقارنون بين ما يحدث معهم وما يحدث مع الفنانين الكبار في الغرب الذين يتم تفصيل أعمال درامية وأفلام مناسبة لهم.
في هذا السياق، أدان النجم المخضرم رشوان توفيق بقاء فنانين كبار في منازلهم رغم مسيرتهم الفنية الحافلة دون أن يفكر أحد المنتجين في الاستعانة بهم، ضاربا المثل بالسينما الفرنسية تحديدا التي قال إنها لا تتجاهل فنانيها الكبار بل تستعين بهم كأبطال للأفلام، وتقدم لهم موضوعات تتناسب مع أعمارهم وقيمتهم الفنية.
لكنّ نقادا فنيين قالوا إن تجاهل الفنانين الكبار ليس مسؤولية شركات الإنتاج بشكل عام، وإنما هي مشكلة يتحملها كتّاب الأعمال الدرامية الذين تخلو أعمالهم من أدوار مهمة لهؤلاء الفنانين، ورفضوا مقارنة الوضع في مصر بما يحدث في الغرب خصوصا في هوليوود، لأن أغلب الفنانين الكبار يشاركون في إنتاج الأعمال التي يقومون ببطولتها.
وضربوا مثلا بالنجم المخضرم كلينت إيستوود الذي يشارك في التمثيل والإخراج في أعمال ينتجها بنفسه، كذلك الحال بالنسبة إلى آل باتشينو الذي ينتج بعض الأفلام التي يشارك بالتمثيل فيها في السنوات الأخيرة.
النجم المخضرم رشوان توفيق أدان بقاء فنانين كبار في منازلهم رغم مسيرتهم الفنية الحافلة دون أن يفكر أحد المنتجين في الاستعانة بهم
ويؤكد الناقد الفني محمد عبدالرحمن أن قلة الاستعانة بالفنانين الكبار في السن عن السابق “سنّة الحياة”، في ظل قلة الأعمال الدرامية المنتجة، مقارنة بفترات سابقة، فضلا عن زيادة عدد الفنانين، كما أن الفنان النجم يحتاج معاملة مميزة على مستوى الأجر والكتابة والتفاصيل حتى بعد تقدمه في السن، وهذا غير متاح حاليا نتيجة لظروف العمل الفني.
وعن تكرار الاستعانة بنفس الوجوه في أعمال مختلفة، قال إن الأمر يرجع إلى رغبة بعض النجوم في مشاركة فنانين معينين في أعمالهم الفنية، و”استسهال” الشركات المنتجة تكرار الاستعانة بنفس الفنانين بحكم أنهم باتوا معروفين لديها.
ولا تعتبر تلك الظاهرة جديدة في مصر، فمثلا ظهرت الراقصة سامية جمال في معظم الأفلام التي لعب بطولتها المطرب فريد الأطرش في منتصف القرن الماضي، وفي الدراما التلفزيونية كان مألوفا في أعمال الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة ظهور ممثلين بعينهم، أمثال سيد عبدالكريم وسيد عزمي ومحمد متولي.
وزاد في السنوات الأخيرة لجوء بعض الفنانين الشباب إلى الشكوى العلنية من تجاهلهم دراميا، وهو تصرف لاقى تشجيعا من بعض الجماهير ودعما لهم، بينما انتقد آخرون مبالغة بعض الممثلين في الحديث عن ظروفهم الاقتصادية الصعبة، معتبرين أن ما يفعله هؤلاء ليس سوى “تسول مقنّع” عبر تجييش الرأي العام للتعاطف معهم بهدف الضغط على شركات الإنتاج للاستعانة بهم، مثلما حدث مؤخرا مع الفنان أحمد عزمي، وهذه الطريقة تسيء لصورة الفن والفنانين المصريين في الخارج.
وكان الممثل الشاب أحمد عزمي واحدا من تلك الحالات، حيث كتب على صفحته بموقع فيسبوك أنه لا عمل له سوى التمثيل وأن البطالة التي يعاني منها سوف تقوده إلى الموت كمدا وحزنا مع عدم قدرته على الصرف على ابنه الذي يكبر أمامه.
وخلال ساعات من كتابة ذلك المنشور عاد الممثل الشاب ليكتب منشورا آخر يشكر فيه الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية على التوقيع معه للمشاركة في مسلسل جديد يصور قريبا ليعرض في شهر رمضان المقبل.
فن أم سياسة
المسألة لم تعد فردية بل تكاد تشكل ظاهرة، وتمثل خطرا يداهم سمعة الفن المصري في الخارج
استجابة الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، والتي تنتج معظم الأعمال الدرامية في مصر أو تتولى توزيعها بحكم امتلاكها أغلب القنوات الفضائية التي تعرض تلك الأعمال، تم تفسيرها على وجهين، الأول إيجابي وهو أن الشركة تتابع أحوال الوسط الفني جيدا وتستجيب لرغبات الفنانين المصريين وتسعى لمساعدتهم.
ورأى آخرون أن ما حدث مع عزمي ليس سوى “شو إعلامي” من مسؤولي المتحدة لكسب الرأي العام، وتساءل أصحاب هذا التفسير عن سبب تجاهل الاستعانة بالفنانين وتركهم في منازلهم حتى يصلوا إلى مرحلة التسول، وتساءلوا عن طبيعة الدور الذي تم إسناده للفنان وكيف ظهر خلال ساعات من مناشدته العلنية بعدما بقي مختفيا لسنوات؟
وهناك من يرى أن تحميل الشركة مسؤولية تغييب بعض الفنانين لحساب آخرين اتهام سياسي أكثر منه فنيا، ويستشهدون بأن الشركة أنتجت في رمضان الماضي 16 مسلسلا دراميا شارك فيها المئات من الفنانين من مختلف الأعمار، بالتالي فالقضية ليست إقصاء فنانين محددين عن المشاركة، أو أن هناك توجها باقتصار المشاركة على عدد محدود من الممثلين كما يقال.
كما أشاروا إلى أن الشركة المتحدة وقّعت في شهر سبتمبر الماضي بروتوكول تعاون مع نقابة المهن التمثيلية ومدينة الإنتاج الإعلامي لتوفير فرص عمل للفنانين الذين لا يحصلون على فرص للمشاركة في الأعمال الفنية، وبموجب البروتوكول تنوي الشركة إنتاج أعمال تاريخية ودينية يقوم ببطولتها فنانون معروفون وغيرهم ممن لم يجدوا فرصاً للعمل في الفترة الأخيرة.
النقيب وسط العاصفة
في السنوات الأخيرة زاد لجوء بعض الفنانين الشباب إلى الشكوى العلنية من تجاهلهم دراميا
وجه فنانون آخرون اتهامات صريحة الى أشرف زكي نقيب المهن التمثيلية بفرض فنانين معينين على شركات الإنتاج، حيث كتب فادي خفاجة الذي ظهر كأحد أبناء الممثل محمد صبحي في مسلسل “يوميات ونيس” على صفحته في فيسبوك يقول إن أشرف زكي يرسل كشوفا لشركات الإنتاج لفرضها على الأعمال الفنية بالأمر المباشر.
ورد أشرف زكي على هذا الاتهام بعدم تدخل النقابة لفرض أسماء فنانين على شركات الإنتاج أو إرسال كشوف بالأسماء، وأن النقابة ليس دورها تشغيل الفنانين أو تحديد اختيارات المخرجين والمنتجين، وهذا الأمر يعتبر “إهانة” للفنانين، واختيار الأدوار يتم بناء على رؤية المخرجين واحتياجات العمل وليس عبر توصيات من النقابة.
وتواجه النقابة مشكلة نشر أخبار غير حقيقية من خلال حسابات مزيفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تتناول لجوء بعض الفنانين للعمل كسائقين، واضطرار البعض الآخر للتسول في الشوارع بحثا عن “لقمة العيش”، ما دفعها لإصدار بيان رسمي تهدد فيه أصحاب الحسابات بملاحقتهم قضائيا.
ويبحث أصحاب الحسابات المزيفة عن تحقيق الانتشار لصفحاتهم ما يفتح أمامهم أبواب تحقيق الربح، وحدث أن أقدم حساب وهمي على نشر خبر يقول إن الفنان توفيق عبدالحميد حوّل سيارته الخاصة إلى تاكسي (سيارة أجرة) لكسب عيشه وهو ما نفاه الفنان، قائلا إنه تحدث عن ذلك قبل 20 عاما حينما كان في ضائقة مالية، لكن البعض أعاد نشر الأمر باعتباره خبرا جديدا.
كما نشر حساب مزيف للفنان الكبير أسامة عباس منشورا يناشد فيه المنتجين الاستعانة به، وخرج ابنه لينفي وجود حساب باسم والده، ثم أعلن عباس اعتزاله الفن تماما.
ولا تعد ظاهرة سوء الأحوال الاقتصادية لبعض الممثلين جديدة على الوسط الفني وإنما كانت موجودة في أوقات سابقة، بداية من الكوميديان الشهير الراحل إسماعيل يس، وصولا إلى الفنان الراحل يونس شلبي، لكن الفارق أن هؤلاء الفنانين لم يتاجروا بظروفهم الصعبة، أو لم تكن مواقع التواصل ظهرت ليكشفوا عبرها عن معاناتهم.