مصر تشجّر الطرق لامتصاص غضب شعبي من الكتل الإسمنتية

القاهرة- أقدمت الحكومة المصرية على خطوة جديدة لامتصاص الغضب الشعبي ضد تحول الطرق إلى كتل إسمنتية، وكلفت المسؤولين في المحافظات والأقاليم بزراعة الأشجار على المحاور والجسور مهما بلغ طولها خلال فترة وجيزة.
ومؤخرا عقد رئيس الحكومة مصطفى مدبولي اجتماعا موسعا مع وزراء ومسؤولين استهدف تكليف حكام الأقاليم بتشجير محاور القاهرة الكبرى والمدن والقرى والأحياء في المحافظات المختلفة، وتحويلها إلى مناطق خضراء بزراعة مئة مليون شجرة.
وأطلق الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من قبل مبادرة لزراعة مئة مليون شجرة، لكن لم تنفذ على الوجه الأكمل في ظل غياب المتابعة والرقابة والمحاسبة، مقابل التوسع في مشروعات عمرانية قلّصت المساحات الخضراء، ما سبب غضبا شعبيا.
◄ الإجراءات التي اتخذت من جانب هيئات حكومية تجاه كل ما هو أخضر، مقابل التوسع في البناء العمراني غير الرشيد، حوّلت مصر إلى كتل إسمنتية
وتريد الحكومة من وراء الخطوة تحسين صورة المشروعات التنموية والمحاور المرورية التي توسعت فيها بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية وسط استياء حقوقيين وبرلمانيين ومواطنين من التوسع في ما أطلق عليه “مذابح” الأشجار لأسباب تنموية.
ويتشكك مصريون في تنفيذ الحكومة خطتها بالتوسع في المساحات الخضراء، أمام أزمة المياه التي تعانيها البلاد وتعقد مفاوضات سد النهضة الإثيوبي، وهو ما رد عليه رئيس الحكومة بأن الري سيكون بمياه الصرف المعالج وبنظام التنقيط فقط.
وتعهد مدبولي بأن “أي قطعة أرض متخللات (تسمى متخللات لأنها تحيط بها المباني وجميع المرافق -كهرباء ومياه وصرف صحى- وتكون في الأراضي الزراعية أو أراضي المباني، ولكن ليست لها خارطة ولا تصوير جوي) في المحافظات سيتم استخدامها في زراعة الأشجار”، بعد انتقادات طالت تركيز الحكومة على تشجير المدن العمرانية الجديدة وتجاهل احتياجات سكان الأقاليم والقاهرة القديمة من المساحات الخضراء.
وصدر تكليف للمسؤولين المحليين بمنع تحويل أي منطقة خضراء إلى تجارية، ومنع قطع الأشجار تحت أي ظرف أو سبب، وعدم تنفيذ عمليات تقليم قبل الرجوع والتنسيق الكامل مع اللجان الاستشارية المختصة في وزارة البيئة.
وتصاعدت وتيرة الغضب من الحكومة بعد أن قاد ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي حملة وثّقوها بصور ومقاطع فيديوهات لما يسمى بـ”مذابح الأشجار”، ما أحرج القائمين على الخطاب الرسمي الذي اعتاد التسويق لزيادة عدد الحدائق العامة.
وخلّفت مبررات الحكومة ردود فعل سلبية، لأن نسبة كبيرة من الحدائق العامة التي جرى التوسع فيها تقع في مدن حديثة لا يستطيع أغلب المصريين السكن فيها لارتفاع كلفتها، مثل العاصمة الإدارية الجديدة بشرق القاهرة وصارت مقرا للسلطة.
وتعاني مصر من ارتفاعات قياسية في درجات الحرارة، وعلى فترات متقاربة يتم اتهام المشروعات التنموية التي تم إنشاؤها مكان حدائق خضراء بأنها سبب رئيسي في ما وصلت إليه البلاد من سخونة في الأجواء وتغيرات مناخية.
ويرى ناشطون في شؤون البيئة أن الإجراءات التي اتخذت من جانب هيئات حكومية تجاه كل ما هو أخضر، مقابل التوسع في البناء العمراني غير الرشيد، حوّلت مصر إلى كتل إسمنتية ولا يجد المواطنون متنفسا مناسبا للهواء النقي.
وأمام كل حديث حكومي عن الإنجازات المرتبطة بملف التوسع في الطرق والجسور تطفو على السطح إسقاطات سياسية حول المظهر العام، واستغلال “مذابح الأشجار” لِلَوْم الحكومة على أنها لا تحسن التصرف ولا تجيد ترتيب أولوياتها.
وتضاعف الغضب مع الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي وأزمة الطاقة، قبل أن تقرر الحكومة وقف تخفيف الأحمال، بدءا من الأحد الماضي إلى حين انتهاء فصل الصيف، وكانت تهمة إزالة مساحات خضراء تطاردها كلما ارتفعت درجات الحرارة.
ولا ينفصل تشجير الطرق والشوارع والمحاور المرورية عن مساعٍ حكومية تريد تحسين صورة هذا الملف التنموي في ظل امتعاض يظهر كلما تم الإعلان عن خطط توسعية عمرانية أو التسويق للاقتصاد الأخضر.
وأكد سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة أن تشجير المحاور المرورية محاولة من الحكومة لتحسين صورة مشروعات تنموية متهمة بزيادة تعقيدات الأزمة الاقتصادية، ويصوّب الغضب ضدها بطرق مختلفة.
وأضاف لـ”العرب” أن زراعة الأشجار لا توقف الجدل حول الأولويات الحكومية، لأن المشكلة أكبر من إزالة مساحات خضراء، وتتعلق بتحفظات بعض المواطنين على التوسع في محاور وجسور وأولويات تتبناها الحكومة عموما.
ولم تعد الحكومة ترغب في الظهور مناقضة لتوجهاتها التنموية، فهي لا تكف عن الحديث عن التوجه نحو الهيدروجين الأخضر، ووضع إستراتيجية مرتبطة بمواجهة التغيرات المناخية، في حين تقوم من ناحية أخرى بتحويل الأخضر إلى يابس.
وجاهد مسؤولون مؤخرا لإقناع الرأي العام بجدوى التوسعات التنموية على حساب بعض المساحات الخضراء كضرورة ملحة لمواجهة الازدحام المروري، لكن ردّ الفعل الشعبي جاء عنيفا وعبّر عن شحنات غضب لا تحتمل العناد.
ويعبر التجاوب مع تذمر الرأي العام من التوسع في مشروعات تنموية عن تغير في تفكير إدارة الحكومة واستماعها إلى صوت الناس أكثر واقتناعها بوجود خسائر سياسية إذا واصلت العناد في ملف متحفظ عليه شعبيّا.
واعتادت دوائر حكومية التعامل مع الجدل المحتدم على مواقع التواصل الاجتماعي تجاه أي مشروع تنموي أو تصرف مثير للجدل، بعدم اعتناء كبير، وربما استخفاف، من منطلق أنه مجرد تفريغ لشحنات غضب مكتوم لا يستدعي الوقوف عنده.
ودأب معارضون على تشويه صورة كل إجراء تنموي تقوم به الحكومة، ولو بتوسعة طريق أو بناء جسر حيوي، بدعوى أنه يضاعف الكتل الخرسانية ويشوه الصورة العامة ويكلّف مبالغ طائلة وسيصبح سببا في إزالة مساحات خضراء جديدة.
وبلغ تشويه الصورة حد اتهام الحكومة بأنها تنتقم من الأشجار وتزيلها كي تقوم بتصدير الفحم إلى إسرائيل بعد وقف كولومبيا تصديره إليها، ما يشي بعدم وجود علاقة لمشروعات التنمية في مصر بقطع الأشجار.
وما يلفت الانتباه أن التوجه الحكومي نحو تشجير الطرق والمحاور المرورية لم يواجه بردّ فعل إيجابي يوازي حالة التذمر الشعبي ضد “مذابح الأشجار”، ما يوحي بأن الغضب في مصر حيال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية يصعب ترويضه.