الحكومة المصرية تلجأ إلى التوسع في تطبيق اللامركزية لتخفيف الضغوط الشعبية

تحاول الحكومة المصرية تدارك الأخطاء السابقة التي أدت إلى فجوة كبيرة بينها وبين الشارع يصعب ترميمها، ومن بين الخطوات التوجه نحو توسيع نطاق اللامركزية بحيث يتحمل المسؤولون المحليون الجانب الأكبر من المسؤولية حيال الأزمات والتحديات التي تعترض المحافظات.
القاهرة - عكست تكليفات صدرت لمسؤولي المحليات والأقاليم في مصر مؤخرا وجود توجه رسمي نحو توسيع صلاحياتهم وتوسيع نطاق اللامركزية في الدولة، ليكونوا شركاء في تحمل المسؤولية بدلا من تصدير الأزمات إلى النظام الحاكم، والذي لا يرغب في أن تظل الحكومة متهمة بالتقصير.
وتعهد رئيس الحكومة مصطفى مدبولي بتقييم أداء كل محافظ إقليم بشأن حل الأزمات وتجاوز التحديات واتخاذ ما يلزم لترضية الشارع وإزالة المخالفات واتخاذ كل ما يلزم للقضاء على البيروقراطية وعدم تعطيل مصالح المواطنين، من خلال تشكيل ما يشبه “مجلس وزراء مصغرا داخل كل محافظة لمتابعة المشكلات على الأرض”.
وظلت الحكومة المصرية تتحمل مسؤولية كل شيء على مستوى البلاد، ولا يتحرك مسؤولو الأقاليم لحل الأزمات باعتبارها مهمة الوزراء وحدهم، ما جعل الحكومة تنال القدر الأكبر من الانتقادات والاتهامات الموجهة من قبل المواطنين.
ومن وراء تطبيق اللامركزية في الجهاز الحكومي ترغب دوائر رسمية رفيعة في رفع العبء عن المؤسسات والدوائر الفاعلة في السلطة، بحيث يكون محافظ الإقليم أشبه بـ”رئيس” جمهورية الإقليم المسؤول عنه والمفوض عن رئيس الحكومة للتعامل مع أي مشكلة دون تصديرها إلى السلطة التنفيذية المركزية في القاهرة.
وأصبحت كل أزمة تخص مستشفى في مدينة أو قرية صغيرة تُصدّر إلى وزير الصحة، وكل كارثة تحدث في مدرسة بمنطقة نائية تطال وزير التعليم، وهكذا الحال في مختلف المؤسسات في الدولة، وهو ما رأت الحكومة معه حتمية توسيع اللامركزية لتخفيف حدة الغضب عليها، بحيث يتحمل كل مسؤول إقليم ما لديه من تحديات.
ويتعلق جزء من المشكلة بغياب وعي الجماهير بسلطة وصلاحيات وزراء الحكومة، حيث تعتقد أنهم مسؤولون عن كل شيء يخص الملفات الموكلة إليهم، دون إدراك لكون محافظ الإقليم أقوى في الصلاحيات من الوزير المختص، لكن المصريين نشأوا على فكرة أن السلطة المركزية مسؤولة عن كل ما يخص المواطن.
وتتحمل الحكومة الجزء الأكبر من غياب الفهم عند الشارع لحدود وصلاحيات حكام الأقاليم، مقابل ضعف صلاحيات الوزراء، فأي أزمة (مثلا) تخص مدرسة، لا يستطيع وزير التعليم التدخل فيها، لأن القانون يغل يده في الحل، بقدر ما يمنح كل الصلاحيات للمحافظ المختص في الإقليم، لكن ظهور الوزير في الصورة يكون سياسيا فقط.
ويصطدم التحرك نحو توسيع نطاق اللامركزية بارتفاع نبرة الغضب في الشارع من تجاوزات موجودة داخل بعض المحليات تصنّف من قبل مواطنين بأنها تعج بالمخالفات وتعرقل خطط التنمية التي تنشدها السلطة بزعم أنها بعيدة عن أعين الأجهزة الرقابية، وارتكاب بعض المسؤولين في الإقليم مخالفات يصعب كشفها.
وتعتقد دوائر سياسية أن تطبيق اللامركزية مطلوب لتسريع التنمية والقضاء على البيروقراطية الإدارية، بعيدا عن تعطيل مصالح الناس، وتفعيلها دون رقابة أو إعادة هيكلة المحليات وانتقاء الكوادر المناسبة سوف يقود إلى أزمات كثيرة قد تغذي غضب الشارع من تعطيل مصالحه بشكل شبه متعمد.
وترمي تلك المخاوف إلى أن تطبيق اللامركزية بلا حسابات دقيقة للواقع قد يثير غضب الشارع، لأن الحكومة مطالبة بتطهير الأقاليم التي ستؤول إليها الكثير من الصلاحيات من الفساد والبيروقراطية، ودون ذلك قد تُقْدم على مغامرة غير محسوبة العواقب، على الرغم من المزايا التنموية للخطوة، وتوسيع دائرة تحمل المسؤولية.
ويرى مؤيدون للخطوة أنها ضرورية لتكون كل المؤسسات شريكة في حل المشكلات ومواجهة التحديات وعدم تصدير الأزمات إلى السلطة بما يجعلها تبدو عاجزة عن مواجهتها بسهولة، إذ لا يمكن للحكومة وحدها تحمل مسؤولية كل شيء، مع أن ممثلي السلطة في المحليات ربما يتخاذلون عن أداء المهام الموكلة إليهم أو يعولون على تدخل الحكومة المركزية للحل بعيدا عنهم.
وتجاهد الحكومة لترميم العلاقة مع الشارع، وتسعى لتحقيق قفزات تنموية، لكنها لا تستطيع التقدم إلى الأمام بسبب تراكم التحديات واختزال الأزمات التي تعقد علاقتها مع الشارع في الظروف الاقتصادية والاجتماعية، مع أن المعضلة الأكبر تكمن في سلوك شخصيات مكلفة بإدارة مؤسسات حيوية تتعلق بصميم حياة الناس ومصالحهم.
تطبيق اللامركزية مطلوب لتسريع التنمية والقضاء على البيروقراطية الإدارية، بعيدا عن تعطيل مصالح الناس
ويتحمل كل من مجلس النواب والحكومة جزءا كبيرا من مسؤولية تهاوي صورتهما في الشارع، لأنهما تراخيا في إجراء انتخابات المحليات بشكل يرفع عبء المشكلات التي يمكن حلها في الأقاليم عن السلطة المركزية. ولا توجد في مصر مجالس محلية منتخبة منذ عام 2011، أي تفتقد 47 ألف قيادة مهمتها تطبيق اللامركزية المنضبطة، وهناك تصورات وتحركات لإصدار قانون جديد يفتح الطريق أمام إجراء انتخابات قريبا.
وأكد الخبير في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بالقاهرة عمرو هاشم ربيع في تصريح لـ”العرب” أن تفعيل اللامركزية دون قواعد للرقابة والمحاسبة خطأ، وتحمل حكام الأقاليم مسؤولية حل المشكلات مع الحكومة له أهمية سياسية وشعبية وتنموية، لأنهم الأكثر دراية بما لديهم من أزمات، والتي يعرقل تصديرها إلى السلطة العليا جهود تحسين الأوضاع العامة.
وأضاف هاشم ربيع أن استمرار المركزية في حل المشكلات يعمق الترهل الإداري ويعطل مصالح الناس ويعرقل التنمية، ومطلوب لتطبيقها بشكل حقيقي أن تكون هناك كوادر محلية قادرة على تحمل مسؤولية تمثيل صانع السلطة في كل إقليم، وأن يلمس الشارع صلاحيات من يطبقون اللامركزية في الاستجابة لمطالبهم كي لا يلجأوا إلى الحكومة.
ومع أن النسبة الأكبر من المحافظين الجدد من جنرالات الجيش والشرطة ولديهم صرامة في مواجهة المشكلات، إلا أن اللامركزية في مصر لا ترتبط بكبار المسؤولين بقدر ما تتعلق بالموظفين الصغار، وهؤلاء أعدادهم ضخمة ولهم علاقات متشابكة ومصالح يصعب على الحكومة ضربها بسهولة.
وتمتلك الحكومة منظومة شكاوى موحدة تابعة لرئاستها، وعلى فترات متعاقبة تؤكد الأرقام المعلنة عنها لأي درجة وصل مستوى الترهل الإداري في بعض المحافظات، بما أثر على صورة الحكومة، وضاعف الحواجز النفسية بين السلطة التنفيذية والمواطنين لعجزهم عن الحصول على حقوقهم أو حل مشكلاتهم بشكل سريع.
وأكثر ما يخيف النظام المصري استمرار المؤسسات العمومية على نفس الوتيرة الحالية من الضعف، في حين تعاني الدولة من تحديات ضخمة، بالتوازي مع تدني الظروف المعيشية، ما يفسر توزيع المسؤوليات بين الحكومة والمحليات لترضية الشارع، لأن أي خطاب يستهدف إقناع الناس بالتغيير سوف يفتقد المصداقية طالما استمر الأداء المحلي المباشر مخيبا للآمال.