في البحث عن "رواية بديلة"

هذه روايات يتم استخدامها لتعزيز نظام عالمي جديد قائم على قيم هشة وشاذة تزيد من معاناة الإنسان. روايات تكمن شياطينها في تفاصيلها يتم فيها تغييب فكر الإنسان في سراديب مظلمة.
الجمعة 2024/07/19
ثقافات مشوهة أدت إلى تعزيز واقع مؤلم

البشرية في حاجة ماسّة إلى روايات تاريخية أثرية فكرية ثقافية ميتافيزيقية إيمانية وجودية بديلة للروايات المتداولة.

من الممكن البدء بالتنقيح وطرح التساؤلات وحتى التشكيك في محاولة للتأكد من السرد السائد قد ينتج عنها نسف الروايات المتوفرة والمتوارثة.. لماذا؟

لأن المطروح والمتداول والمُعتاد ليس بالضرورة صحيحا، ويبدو أنه لم يعد يخدم المجتمعات البشرية ورخاء الإنسان وأمنه واحتياجاته بالشكل المطلوب. ما بقي منه هو خلاصة مشوهة مرعبة تعمل على تعزيز واقع مظلم.

ما يتم تعليمه في المناهج التعليمية والروايات التي يتم اعتمادها في تشكيل الوعي الجمعي للمجتمعات ليس بالضرورة دقيقا إنما تم التلاعب به على ما يبدو بشكل مدروس على مدار قرون.

الأمر أشبه بلعبة “تلفون خربان”.. بعد سنوات وعهود طويلة تصل الروايات مغلوطة، مُتلاعبا بها، مشوهة ويتم استغلالها من قبل “النخب” لتعزيز مصالحها وتجهيل العامة وللسيطرة على المجتمعات والأفراد بما يخدم مصلحة أقلية.

◄ نحتاج إلى المزيد من الأطروحات والنظريات والأفكار والفلسفات المختلفة، لعلنا نجد شبه إجابات واقعية لماضي البشرية، ثم لعلنا نقف في لحظة ويتوقف التاريخ عن إعادة نفسه كمهزلة

هناك تداخل بين العادات والتقاليد، الموروث الفكري والثقافي للشعوب، التاريخ الديني والسرد الديني وخُلاصة ما ظهر من مصلحين مفكرين وفلاسفة والروايات الدينية باختلافها وتنوعها.

المطروح اليوم، والذي تم تعزيزه في وعي المجتمعات وتحويله إلى مُسلّمات، ساهم في خلق صورة نمطية للشعوب عن نفسها وعن الآخر، وتحديد هُويتها، نظرتها لكلمات مثل الشرف، الوطن والوطنية، النخوة، العدالة، الحقوق، الديمقراطية، الإنسانية والتعاطف وغيرها من المفردات التي شكلها وعي الإنسان على مدار قرون طويلة.

ما تعاني منه المجتمعات البشرية اليوم إنما هو حصيلة آلاف السنين من بناء روايات تاريخية دينية فلسفية قيمية معينة أدت إلى إنتاج وقيام دول وحضارات معينة. كما تم تقسيم البشرية حسب معطيات محددة وروايات يتم تداولها على أنها حقيقة، لكن من قال ذلك؟

إن قدرتنا على تكوين مشهد أقرب إلى الحقيقة عن ماضي البشرية، يكون من خلال اللغات والآثار والدلائل المادية المحسوسة وإنّ ما يتم اكتشافه لا يُثبت حقيقة ما يتم تداوله وتعزيزه.

الروايات المتداولة عالميا تخدم مصالح سياسية لأطراف معينة، وتساهم في بقاء النظام العالمي الجديد القائم. والتنقيح في الروايات الأخرى وطرحها فوق الطاولة للنقاش والحوار والمجادلة وفتح الأبواب للمناظرات والعصف الذهني الجمعي الثقافي التاريخي الأثري الميثولوجي الفلسفي من الممكن أن يغير من طبيعة العالم الذي نعيش فيه.

التغيير ليس من مصلحة النظام العالمي الجديد.. ليس من مصلحة النخبة.

تم على مدار السنوات تدمير مكتبات وسرقة مجلدات ومعرفة واحتكارها. وما زال حتى اليوم يتم التحكم في سيل المعرفة والمعلومات، بالرغم من الشبكة العنكبوتية والتكنولوجية المتوفرة بين أيدينا، إلا أن النتائج المعرفية الناجمة عنها محددة ومتحكم بها بشكل كبير من جهات أمنية وسياسية واقتصادية وفكرية معينة.

هذه الجهات هي وحدها من يحدد ما يجب أن يتم تسريبه للعامة وما يُحظر عليهم.. وتحاول مقاومة المحاولات للصحوة الفكرية المعرفية. تحاول تكسير أيّ مدارس فكرية فلسفية لا تروق لها، وأيّ سرد سياسي اقتصادي اجتماعي قيمي فكري لا يصبّ في مصلحتها.

المعرفة قوة، ومن يمتلك المعرفة والعلم، يمتلك التطور والأدوات، ويملك القوة والسطوة والسيطرة. لذلك يهابون المعرفة، والصحوة الفكرية، وكل من يحاول الصعود على المسرح وتوجيه التساؤلات والتشكيك وطرح مدارس فكرية متنوعة ومختلفة.

◄ معتقدات الإنسان وبرمجته الفكرية تعتبر عاملا أساسيا في تشكيل واقعه. وجزء من مفهوم الجنة والجحيم يكمن بداخل عقل الإنسان

لكن من المهم والضروري أن يعود الإنسان إلى وعيه ويسمح بذلك. إن الوعي والصحوة المعرفية والبدء بطرح الأسئلة ومحاولة السماح بتبني روايات تاريخية ثقافية فكرية دينية جديدة والبدء بمحاولة البحث والاستقصاء حول الروايات المتداولة والخطابات المعهودة من جديد سيغير نظرة الإنسان لنفسه ولأجداده وللآخر.

وقد تُهدم دُول ويعاد ترسيم الحدود بطرق مختلفة.. قد تتوقف صراعات وتنمو صراعات أخرى. قد يصحو الإنسان على حقائق جديدة في نظرته لحقيقته. ولعله يوضع أمام اختبار بتدمير هويته وصورته المتوارثة، ويُجبر على البدء بترسيم وإيجاد صيغة جديدة لنفسه وللأجيال القادمة.

لماذا من المهم إعادة النظر بالروايات المتداولة؟

لأن هذه الروايات أساس صراعات بغيضة مستمرة لا تنتهي وحروب عبثية تؤدي إلى خلق المزيد من الكره والإرهاب والعنصرية واللاعدالة وخلق المزيد من الأفراد الغاضبين المغيبين فكريا والتابعين القادرين على تدمير أنفسهم والآخرين، بدلا من الاستثمار في الإنسان بطريقة إيجابية.

بدلا من إيجاد مساحة أكبر للحوار والمناظرة، نخلق مساحة أكبر في العالم للقتال والمحاربة.

لأن هذه الروايات يتم استخدامها لتعزيز نظام عالمي جديد قائم على قيم هشة وشاذة تزيد من معاناة الإنسان. روايات تكمن شياطينها في تفاصيلها، فيتم تغييب فكر الإنسان في سراديب مظلمة.

إن ما تم تعزيزه على مدار سنوات، أشبه بما تحدث عنه أفلاطون بنظرية “أسطورة الكهف”.. بأن الأفراد يبنون وعيهم وقناعاتهم وإيمانياتهم حسب ما يرونه من ظلال وصور ومشاهد تلقيها النيران على جدار الكهف.

وهذا ما يحدث في واقعنا، بالرغم من تطور الأدوات والعلم والمعرفة والتكنولوجيا. إلا أن النخبة تحرص على بقاء العامة قابعين في الكهف، يرون العالم ويبنون قناعاتهم وأفكارهم ومبادئهم وقيمهم من خلال “ظلال الكهف”.

المستيقظ منهم، من يخرج خارج الكهف تماما، ويرى النور الحقيقي، ويبدأ في البحث عن حقيقة نفسه والعالم بنفسه، رافضا لأيّ محاولات غسل الأدمغة ومحاولة جعله صورة مكررة هشة عن الآخرين.

◄ هناك تداخل بين العادات والتقاليد، الموروث الفكري والثقافي للشعوب، التاريخ الديني والسرد الديني وخُلاصة ما ظهر من مصلحين مفكرين وفلاسفة والروايات الدينية باختلافها وتنوعها

إن معتقدات الإنسان وبرمجته الفكرية تعتبر عاملا أساسيا في تشكيل واقعه. وجزء من مفهوم الجنة والجحيم يكمن بداخل عقل الإنسان، وقدرته على صناعته وإيجاده هنا على الأرض.

إن تعزيز “عدن” أو “الهاوية” يتجلى في قرارات الأفراد والمجتمعات وخياراتهم في تحديد الطُرق المُراد السير فيها.

وإن مزيدا من الثقافات المشوهة سيؤدي إلى تعزيز واقع مؤلم مظلم يزيد من ألم الأفراد وما يقاسونه. وهذا التشوه وحده ما أنتج عالما ممتلئا بالصراعات السياسية الدينية الثقافية في كل مكان، عالم تزداد فيه أعداد الدول المخطوفة من قبل أنظمة دينية متشددة بفكر أحادي، وقطب أحادي، أنتج بدوره عالما إقصائيا بأفكار يمينية ويسارية متشددة. عالم حيث الأقطاب المتصارعة، وأشباه دول متنافرة طائفيا، ودويلات متصارعة إثنيا.

لذلك، في بحثي عن عالم أفضل، أعتقد وأؤمن أننا نحتاج إلى كل المفكرين  الفلاسفة أصحاب الوعي. نحتاج إلى عصف ذهني جمعي، وأن تبدأ مدارس جديدة بالظهور، سواء كانت أثرية أو تاريخية أو دينية أو سياسية. نحتاج إلى المزيد من الأطروحات والنظريات والأفكار والفلسفات المختلفة، لعلنا نجد شبه إجابات واقعية لماضي البشرية، ثم لعلنا نقف في لحظة ويتوقف التاريخ عن إعادة نفسه كمهزلة.

أن نتعلم مثلا بألا نعيد أخطاء الأجداد. ألّا نحمل أثقال موروثات فكرية مشوهة.

في زمن ما، على الإنسان أن يواجه نفسه وتتوقف المجتمعات عن التصرف بجهل وبلاهة.

لماذا؟ ولمَ لا؟

لماذا نقبل الاستمرار في عالم جاهل، غاضب، مظلم وأعمى؟

9