لماذا الإصرار على خلق الجحيم

نحن في حاجة إلى مسح الغبار عن الكتب المكدسة والعقول المحنطة وتنقيح كل الأفكار والإيمانيات المتداولة لنخرج بخلاصات جديدة تمنح واقعا أفضل وتساعد الأجيال القادمة على رؤية الواقع وأنفسها بطريقة مختلفة.
الجمعة 2024/07/12
هكذا يتم تكسير أخلاقيات المجتمعات وقيمها

المعضلة أن الإنسان يعيش في 2024 حيث التكنولوجيا والتطور لكن البرمجة القيمية الثقافية للمجتمعات البشرية والتواصل المشوّه بين الأفراد والمجموعات لا يعكس ذلك.

إن اليسر والسهولة في قطاع المواصلات والاتصالات والمعاملات والقطاعات المختلفة يجب أن ينعكسا في الحوار والنقاشات الدائرة بين المجتمعات والأفراد.

من المفترض أن المعرفة متطورة ومتوفرة ومن الممكن البحث عنها في خضم وجود محركات البحث، والملايين من الكتب، والملايين من الأفكار التي طرحت خلال العشرة آلاف سنة الماضية من حياة البشر وتطورهم.

لكن، تجد أن الواقع ما زال يصدح بالجهل المتفشي والعقول غير الناضجة والمنغلقة الرافضة للحوار والنقاش والتفكير داخل الصندوق وخارجه.

ويُترجم ذلك بهجوم عنيف على الأشخاص والمؤسسات والجهات التي تفكر بطرح الأسئلة وطرح مراجعة معرفية قيمية ثقافية للأفكار والإيمانيات والفلسفات ووجهات النظر المتداولة. سواء كانت سياسية، دينية، اجتماعية أو اقتصادية.

◄ هكذا يتم خلق "صراع العروش الأزلي" بين موسكو وواشنطن.. وهكذا يصدق المواطن الأميركي التهديد الإيراني - الصيني - الروسي فيدفع ضرائبه ويعاني في معيشته وهو صامت

كان من المفترض أننا وصلنا بعد نقاشات عميقة في الفلسفة، الأديان، العلوم، الأدب، الفن، الاقتصاد، الإدارة والسياسة وغيرها من المجالات خلال آلاف السنوات الماضية إلى خلاصة فكرية غنية، نستفيد منها ونبني عليها.. نقوم بتنقيحها مع تطور الزمان وتطور احتياجات البشر وتعديلها، أو الاحتفاظ بالأجزاء المتجذرة القوية المقنعة منها.

لكن، تجد الإنسان غالبا يصر على أن يلقي بكل شيء في الجحيم، والبقاء أسيرا للتبعية الفكرية والانغلاق الفكري والتحجر العقلي في الكثير من الأحيان ما يخلق مزيدا من الغاضبين والساخطين والعقول القاسية المظلمة المتحجرة الرافضة للتحرك من مكانها، ويؤدي ذلك إلى تواصل مشوه بين الأفراد.. نقاشات بيزنطية غير مفهومة غالبا ما تؤدي إلى انفجار مجتمعي داخلي وخارجي ولجوء الإنسان للعنف والقسوة والظلم والفوضى.

للأسف، يصر الإنسان على أن يُبقي عقله مغلقا بإحكام، ومغلفا بشكل رديء.. يرفض حتى طرح الأسئلة والنقاش أو التنقيح.

يرفض رجّ مخه، والتفكير باحتمالات أخرى لمعنى وجوده وللمعرفة، للأدوات، للكون، لفلسفة كينونته، للآخرين.. ولأساليب الحياة وأنماط العيش، لأحزابه واختياراته السياسية والاجتماعية وأنظمته الاقتصادية، ما يودي به في النهاية ليصبح عالقا في المياه الراكدة التي تتحول إلى مياه عفنة مع الوقت.

لماذا يتم طرح الموضوع بهذا الشكل؟

لأن مع وجود المزيد من المستيقظين والمفكرين الواعين بواقعهم، نبدأ بإيجاد المزيد من القادرين على كسر المصفوفة والتحرر منها، المزيد من القادرين على تحديد حقوقهم وواجباتهم، المزيد ممن يتحلون بقيم قائمة على النزاهة والعدالة والإنسانية. بدلا من أن يكون الأفراد عالقين في برمجة عقلية محدودة، تعمل لخدمة النظام القائم على رمي الفتات لهم في ظل دوامة من التحديات الاقتصادية الأمنية المستمرة، ما يخلق منهم عبيدا لنظام عمل 9 – 5، يقبلون بالفتات وبالتضحية ببعضهم لأجل المزيد من الفتات.. يصبحون أدوات النظام في تغذية الصراعات والحروب والمعارك وتعميق الأزمات بوعي ودون وعي منهم.يقول فولتير: “من يجعلك تؤمن بالسّخافات والخرافات، يستطيع أن يُجبرك على ارتكاب الفظائع”.

وهذا ما يحدث تماما. فما بات سائدا في المجتمعات مجرد نشاز رافض للمحاجة والتفكير.. يرفض حتى طرح الأسئلة والاستمتاع بعصف ذهني جماعي.

◄ وجود عالم مستقر اقتصاديا، عادل في توزيع الموارد، أمر مهم جدا.  كما أن إسكات دعاة الرعب والعنف خطوة ضرورية جدا

محاولات البعض في طرح الأسئلة في التفكير، في المناظرة والحوار في كافة مجالات الحياة، باتت مرفوضة وبعنف، ما يؤدي إلى انتشار الرعب والعنصرية والتطرف، لأن العقول المتحجرة ترفض الاختلاف والآخر، وترفض الحياة بتنوعها، وترفض ذكاء الكون واحتمالاته اللامتناهية..

أي، بكلمات أخرى: في ظل تعزيز واقع فقير يعاني مشكلات اقتصادية حياتية ومعيشية حقيقية، مع مسح عقول الأفراد والعامة بخرافات وأوهام هشة تجعلهم خاضعين إيمانيا وفكريا وسياسيا ودينيا لمنظومة معينة.. ومنع الارتقاء بواقع المجتمعات وفكرها يخلق عالما مظلما كالذي نشهده اليوم.

أي، بكلمات واقعية أكثر: هكذا يتم تكسير أخلاقيات المجتمعات وقيمها ما يخلق أفرادا جاهزين ليكونوا وقود حروب عبثية لا داعي لها في الكثير من الأحيان.

خلق المزيد من التفرقة والخلافات والاختلافات بين البشر على أساس ديني وثقافي وإثني وإيماني وغيرها يجعل من الكراهية والحقد والعنف عنوان المشهد.

هكذا يتم خلق أفغانستان مخطوفة من قبل عقول متحجرة مهترئة مُخيفة بقسوتها وظلامها.

هكذا يتم خلق شرق أوسط متداع تشتعل فيه الصراعات والحروب داخليا وخارجيا.. شرق أوسط هش اقتصاديا، فاقد لهويته الثقافية القيمية الفنية وجماله، لم يبق منه سوى ركام ومعاناة مستمرة تحرق الملايين من الأرواح يوميا.

هكذا يتم خلق “صراع العروش الأزلي” بين موسكو وواشنطن.. وهكذا يصدق المواطن الأميركي التهديد الإيراني – الصيني – الروسي فيدفع ضرائبه ويعاني في معيشته وهو صامت.

هكذا يتم خلق “بعبع” المنطقة الذي يُدعى إيران لتدمير اليمن والعراق ولبنان وسوريا بتاريخها الطويل والعريق.

هكذا يتم خلق المزيد من العبيد والتابعين في العالم، وتدمير المجتمعات ثقافيا وفكريا واجتماعيا.

هذا ما جعلنا نصل إلى اليوم الذي يقبل به العالم خيارات هشة مضحكة للرئاسة الأميركية.. ويصمت.

◄ من المفترض أن المعرفة متطورة ومتوفرة ومن الممكن البحث عنها في خضم وجود محركات البحث.. والملايين من الأفكار التي طرحت خلال العشرة آلاف سنة الماضية من حياة البشر وتطورهم

وهذا تماما ما أوصلنا إلى السماح لعودة روح الفاشية لتهدد أوروبا من جديد. هكذا نصل إلى عالم يقبل في “دولة السجن”.. كوريا الشمالية.

هكذا يصل العالم إلى الحضيض بوجود المزيد من النائمين وبوجود المزيد من الذين يعطلون عجلة الاستيقاظ.

حسنا: كيف نصل إلى نتيجة أفضل؟

إن وجود عالم مستقر اقتصاديا، عادل في توزيع الموارد، أمر مهم جدا.  كما أن إسكات دعاة الرعب والعنف خطوة ضرورية جدا. والعودة إلى المحاججة والحوار والتفكير والجدل والمناظرات والتشكيك وطرح الأسئلة، محاولات التنقيح وتبادل المعرفة والأفكار، عمليات العصف الذهني.. أمر لا بد منه فكل ذلك هو ما أوصلنا إلى عالم “متطور”.

إن استفزاز العقل البشري هو ما ساعد في توفير حياة أفضل نسبيا للإنسان وخلق مجتمعات أكثر رفاهية..

إن توفير الإنسان لطاقته جسديا كان لصالح صرفها في جهد ذهني عقلي، لا أن يكون المرء حاملا لكمّ هائل من التكفير والرفض والتنديد.. فيصبح عقبة في وجه التطور ويشكل خطرا على حريات الآخرين، ويشكل تحديا كبيرا أمام المحاولات في إيجاد سُبل جديدة ومختلفة ومتطورة وأفضل للبشرية.

نحن في حاجة إلى مسح الغبار عن الكتب المكدسة والعقول المحنطة، نحتاج للبدء بتنقيح كل الأفكار والإيمانيات المتداولة.. أن نخرج بخلاصات جديدة للإنسان تمنحه واقعا أفضل لنساعد الأجيال القادمة على رؤية الواقع وأنفسها بطريقة مختلفة..

كل الموارد متاحة وكل الاحتمالات متوفرة لنمنح الجميع تجربة أرضية إنسانية عادلة.

فلماذا يصر الإنسان على خلق الجحيم؟

9