دليل أزهري - كنسي في مصر يُكرس سلطة الدين على الأسرة

مسلمون ومسيحيون يتجاهلون قضايا اجتماعية لا تقبل الفصل بنصوص دينية.
الجمعة 2024/06/21
مشاغل الأسر تختلف بين المسلمين والمسيحيين

برر عدد من المفكرين في مصر إطلاق الأزهر والكنيسة للدليل الديني للتوعية الأسرية بوجود حالة من الخوف لدى بعض رجال المؤسستين من انصراف الجمهور عنهم، ما دفعهم إلى التدخل في أدق التفاصيل الحياتية للأسرة، سواء كانوا يفقهون فيها أم لا. ويرى المفكرون أن أزمة الأزهر تتمثل في كونه يتعامل مع الرؤى الحاكمة للأحوال الشخصية للمسلمين من منظور النفوذ الديني الذي لا يقبل المساس به.

القاهرة - جدد تدشين الأزهر والكنيسة في مصر الدليل الديني للتوعية الأسرية، الجدل حول حدود تدخل رجال الدين في رسم العلاقة بين أفراد المجتمع، دون التفات إلى الانتماء العقائدي، طالما أن ذلك يمهد إلى تكريس سلطة الفتوى وتحديد حقوق وواجبات كل طرف، وفق قواعد دينية، أغلبها مستقى من الماضي.

بررت المؤسستان، الإسلامية والمسيحية، إطلاق الدليل الديني بأنه يأتي في إطار إستراتيجية الدولة لتحقيق الوعى الأسري في المجتمع، بما يُعالج قضايا تهم العائلة وتشكل تحديًا يعوق جهود التنمية مع استمرار المفاهيم المغلوطة حول الأسرة.

يتضمن الدليل الديني مجموعة محاور، تحقق الاستقرار المجتمعي، حيث يهدف المحور الأول إلى بيان مقومات الأسرة السعيدة من منظور ديني واجتماعي وصحي، ويركز الثاني على مسؤولية الأسرة من خلال الإعداد الديني والاجتماعي، بينما يهتم المحور الثالث بحقوق الزوجين لتوضيح الحقوق المشتركة بينهما وحقوق كل منهما على الآخر، إضافة إلى حقوق الأبناء.

جاء إطلاق الدليل بعد أسابيع قليلة من تدشين مؤسسة “تكوين” التي تضم مفكرين ومثقفين وحقوقيين دأبوا على نشر دعوات تحث المجتمع على التحرر من الهيمنة الدينية على أفكارهم وشؤون حياتهم، وإعمال العقل والمنطق والحس الإنساني في مختلف التعاملات الحياتية بلا وصاية.

بدا التحرك الأزهري – الكنسي كأنه موجه ضد كل ما يدعو إلى التحرر من سلطة الدين والفتوى من دون الدخول في صدام معلن مع مؤسسة “تكوين” التنويرية، والتي لم ترد على الدليل الديني بالسلب أو الإيجاب، لأن الظاهر في تسويق الدليل للناس أنه ليس موجها إلى المؤسسة بشكل مباشر.

محمد أبوحامد: التركيبة المجتمعية تبحث عن مدنية العلاقة بين الناس والأغلبية تتحفظ على وجود مرشد ديني يحدد لها الصواب والخطأ
محمد أبوحامد: التركيبة المجتمعية تبحث عن مدنية العلاقة بين الناس والأغلبية تتحفظ على وجود مرشد ديني يحدد لها الصواب والخطأ

يمثل تبرع المؤسسة الدينية، الإسلامية والمسيحية، لوضع تصور ينظم العلاقات الاجتماعية بين الأزواج والآباء والأبناء، عائقا أمام الوصول إلى رؤية عصرية تحكم الموضوعات الأسرية بعيدا عن هيمنة الفقهاء ورجال الفتوى من هنا أو هناك، مع أن الكثير منهم كان سببا رئيسيا في إحداث أزمات اجتماعية كثيرة لتعاملهم مع كل القضايا العائلية من منظور ديني بحت بعيدا عن أية اعتبارات أخرى.

يعتقد مفكرون في مصر أن إصرار بعض رجال الدين على التدخل في أمور لا تخصهم مباشرة، ولم يُطلب منهم ذلك رسميا، يعكس تشبثهم بالوصاية على الناس، ويبرهن على اهتمامهم بالسيطرة على المجتمع بكل الطرق، حيث يتمسكون بتقديم أنفسهم إلى الأفراد باعتبارهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، بلا اكتراث بأنهم مثل باقي البشر، يصيبون ويخطئون ولا يجب أن يفرضوا على المواطنين وجهات نظرهم.

ما يلفت الانتباه إلى أن الدليل الديني للكنيسة والأزهر، لم يختلف كثيرا في بعض نصوصه عن رؤى ضيقة يروج لها بعض الشيوخ والمفتين العشوائيين، وترتبط بعلاقة الرجل بالمرأة وحقوق كلاهما في المعاشرة الزوجية، ولم يخل الدليل من دعوة إلى الاحترام المتبادل وحسن المعاملة والتعامل مع المشكلات بهدوء وحكمة، مع الاستعانة بنصوص قرآنية ومسيحية لتأكيد تلك المفاهيم.

يوحي تحرك المؤسسة الدينية بوجود حالة من الخوف لدى بعض رجال الأزهر والكنيسة من انصراف الجمهور عنهم، ما دفعهما إلى التدخل في أدق التفاصيل الحياتية للأسرة، ولو كانت خارج تخصصهم، ولم يعبأ أحدهما أو كلاهما بكون الأغلبية المجتمعية تُعاني الأمية وتسيطر عليها الثقافة السمعية وتتعامل مع كل نص ديني على أنه حقيقة مثبتة بلا إعمال للعقل والمنطق وواقعية التطبيق وملاءمة الظروف.

غاب عن الأزهر والكنيسة أن النسبة الأكبر من الأجيال الجديدة ترفض كل ما يرتبط بالهيمنة الدينية على شؤون حياتهم أو تغليف علاقاتهم مع الآخرين بشعارات الحلال والحرام، ولديهم فائض من الشغف بالتحرر المطلق من أي هيمنة سلطوية أو دينية أو اجتماعية مرتبطة بالعادات والتقاليد، ما يوحي بأن بعض قادة المؤسسة الدينية يعيشون في جزر منعزلة، ولا يستوعبون طبيعة المجتمع الذي يسعون للسيطرة عليه.

ما أثار استغراب البعض أن كلا من الأزهر والكنيسة لديهما رؤية مناقضة للأخرى، فيما يتعلق بالقوانين الحاكمة للأحوال الشخصية أو تلك التي يُحتكم فيها للفصل في الخلافات الأسرية، فكيف يتفقان على رؤية واحدة لكيان عائلي أو مجتمع متماسك؟ فالأزهر يتمسك بأن يكون التشريع العائلي متوافق مع الشريعة الإسلامية والتراث الفقهي القديم، بعيدا عن دعوات الانفتاح والعصرنة التي يتم التسويق لها.

وتتشبث الكنسية المصرية بأن يكون للمسيحيين تشريع خاص بهم، يدير شؤون حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية برؤى عصرية وفق المستجدات الراهنة، ولا يخضع لأي نص له علاقة بالإسلام، على مستوى الميراث أو التبني أو غيرهما، فلكل عقيدة ظروفها وطقوسها ومبادؤها، وهي مطالبات تواجه بتحفظ من أصوات أزهرية تدعو للوصاية على قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين.

ويبني رافضون للدليل الأزهري الكنسي رؤيتهم على أن مدنية الدولة تتأسس أولا على ابتعاد رجال الدين عن التدخل في أي شيء يخص العلاقات الاجتماعية، إذا كانت هناك رؤية لنشر ثقافة المساواة في الحقوق والواجبات، ولا توجد فوارق بين رجل وامرأة، أو مسلم ومسيحي، ويمهد العكس الطريق ليكون المجتمع أسيرا لتوجهات وقناعات قادة كل مؤسسة دينية.

قال البرلماني السابق والباحث في شؤون العقائد محمد أبوحامد إن التركيبة المجتمعية تبحث عن مدنية العلاقة بين الناس، والأغلبية تتحفظ على وجود مرشد ديني يحدد لها الصواب والخطأ، لكن لا مانع من وجود نصائح تحث على المعاملة الحسنة وترمم الشروخ الأسرية في حدود ضيقة وعبر خطاب لا يتم فرضه على الناس عنوة.

وأضاف لـ”العرب” من بين أدوار المؤسسة الدينية التدخل لمنع التشققات الاجتماعية إذا وجدت خطرا يستدعي حضورها، لكن ذلك يتوقف على نمط الخطاب وطبيعته وحدوده والشريحة المستهدفة منه، وألا يتضمن توجيها مناقضا لرؤية الأغلبية أو تقديمه بشكل يثير ضده تحفظات، فثمة شريحة لها ممانعات لتدخلات الدين في حياتها.

◙ إصرار بعض رجال الدين على التدخل في أمور لا تخصهم مباشرة، وبصفة غير رسمية يعكس تشبثهم بالوصاية على الناس

وجزء من أزمة الأزهر مثلا أنه يتعامل مع الرؤى الحاكمة للأحوال الشخصية للمسلمين من منظور النفوذ الديني الذي لا يقبل المساس به، مع أن القانون المطبق حاليا ويدير شؤون العلاقات الاجتماعية يواجه برفض برلماني وحكومي وأغلبية شعبية،حيث ضاعف من اقتحام الفقهاء للقضايا المجتمعية، حيث أصبحوا يتحركون وحدهم لحسم قضايا محل خلاف عائلي، سواء أكانوا على دراية كاملة به أم لا.

وهناك معضلة ترتبط بأن رجال المؤسسات الدينية غير متفقين على حسم الكثير من القضايا الاجتماعية التي لها علاقة بالدين، وبينهم خلافات عميقة، وهي إشكالية تقود إلى فرض رؤى ضيقة على الناس، كأن تخضع المسائل الدينية المرتبطة بالمرأة لأهواء أصحابها وطبيعة نظرتهم للنساء بشكل عام.

أقرب مثال على ذلك أن الدليل الأزهري – الكنسي فرض على المرأة تلبية رغبة الزوج في المعاشرة إذا دعاها لذلك، طالما لا يوجد مانع شرعي أو طبي بلا تطرق لعدم المعاشرة بالإكراه إذا كانت لا ترغب وليست لديها موانع شرعية أو طبية، وهي نظرة دونية يتعامل بها شيوخ متشددون مع المرأة في حقوق الزوج منها عند الفراش.

وسبق لدار الإفتاء المصرية أن أباحت للمرأة عدم الاستجابة لزوجها إذا أراد معاشرتها رغما عنها، لكن يُؤخذ على الأزهر والكنيسة عدم التطرق لذلك في دليلهما حول “الأسرة المتماسكة”، لأن غض الطرف عما يُعرف بالاغتصاب الزوجي أوحى للبعض بأن هذا المصطلح دخيل على المجتمع، بما يكرس سطوة الرجل في تحديد شكل وتوقيت وكيفية العلاقة الحميمية.

وأسهم المفهوم الديني الخاطئ لشكل العلاقة الزوجية في تعزيز المعاشرة بالإكراه، لأن المجتمع ورث نصوصا فقهية مفادها أن المرأة التي يدعوها زوجها للفراش وترفض تظل الملائكة تلعنها ما جعل أغلب النساء يلتزمن بالطاعة التامة أمام ترهيب أزواجهن، وهي مشكلة لم يعالجها الدليل الأزهري – الكنسي دون أسباب معلنة.

وتوجد موضوعات عائلية لم يعد مقبولا الفصل فيها من النصوص الدينية فقط، لأن الزمان تغير والظروف نفسها لم تعد كما كانت عليه، وهي أزمة لم يستطع الأزهر والكنسية تجاوزها بعد. وتوجد أيضا قضايا مجتمعية شائكة يصعب التعامل معها بنصوص قانونية دينية دون البحث في خلفياتها وأسبابها ومعالجتها بشكل عقلاني وليس بتشدد أو انحياز، لأن هناك سطوة من الفكر الذكوري على المؤسسة الدينية قادت مع الوقت إلى النظر بعنصرية إلى احتياجات وحقوق المرأة، ما يؤسس لشقاق مجتمعي يصعب ترميمه.

ويتفق متخصصون في القضايا الاجتماعية على صعوبة معالجة المسائل الشائكة في أي مجتمع بنصوص دينية تكرس للعادات والتقاليد والأعراف، لأن ذلك يقود لارتفاع وتيرة التمرد بين الأجيال التي تعادي وصاية رجال الدين على حياتهم الشخصية، وتميل إلى الانفتاح والتحرر بعيدا عن القيود والموانع الشرعية، وهو ما يجب أن تستوعبه الكنيسة والأزهر قبل اتساع منسوب التمرد ضدهما مع مرور الوقت.

16