لماذا حياة المبدعين قصيرة في الغالب

النشاط العصبي المفرط في الدماغ يرتبط بقصر العمر لدى الإنسان وهذا ما يفسر الموت المبكر للكثير من المبدعين.
الأحد 2024/05/19
حساسية المبدع قد تتسبب في نهايته (لوحة للفنان إسماعيل الرفاعي)

من اليسير جدا دحض الفكرة القائلة إن المبدعين يموتون مبكرا، بدلالة بسيطة أن الكثير من المبدعين قد عمروا وأمد الله في حياتهم حتى بلغوا أرذل العمر، لكن تبقى لهذه الفكرة معطياتها الخاصة التي تظهر نسبة كبيرة من الموت المتعجل لهم، ولهذا سأعمل في بحثي الأكاديمي هذا على استكمال ما بدأت به في المادة السابقة (المنشورة في “العرب” بتاريخ الأول من أبريل 2024 بعنوان “لماذا يموت المبدعون باكرا”) ذات الصلة بهذه الفكرة التي طالما شدت انتباه الكتاب والقراء على حد السواء.

ومن الناحية العلمية نشرت مجلة nature العلمية ورقة بحثية في العام 2019 تشير إلى أن النشاط العصبي المفرط في الدماغ يرتبط بقصر العمر لدى الإنسان. لم تكن النتائج مستغربة لدى العلماء فثمة علاقة معروفة لديهم مسبقا بارتباط الآلية التي تتحكم في إثارة الدماغ بالآلية التي تتحكم في عملية الأيض، والتي كانت مرتبطة منذ فترة طويلة بتحديد العمر الافتراضي للإنسان، كما يقول الدكتور بروس يانكر، الباحث المشارك في الدراسة، وأستاذ علم الوراثة وعلم الأعصاب في كلية الطب بجامعة هارفارد. لكن المفاجئ لهم كانت حقيقة أن قلة نشاط الدماغ مرتبطة بطول العمر.

أما عن تأثير هذه الفكرة المتعلقة بالموت المبكر وربطها بالإبداع، فقد أخبرني الشاعر والصحافي الفلسطيني المعروف راسم المدهون بأن الشاعر السوري الكبير علي الجندي قال له في إحدى جلساتهم إنه ليس بشاعر عظيم ولو كان كذلك لكان مات في عنفوان شبابه وعطائه. مع العلم أن الجندي صاحب مقام سامق في مضمار الشعر العربي وهو من هو. ومن هذا القول الجدي الهزلي سأتابع الحديث عن الموت المبكر، بالتركيز على الأدباء المبدعين العرب والمسلمين.

◄ الشاعر الفلسطيني الشهيد عبدالرحيم محمود (1913 – 1948) استشهد في معركة الشجرة، بسبب إصابته في عنقه ووجهه بشظية قذيفة

هناك قصة حقيقية شهيرة في تراثنا العربي عن غلام صغير تفوق على أبي العلاء المعري، تقول القصة “جاء غلام صغير إلى أبي العلاء المعري في مجلسه، فقال له: أأنت القائل: إني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لا تستطعه الأوائل. فقال أبو العلاء: نعم. فقال له الغلام، فإن العرب قد جاءت بثمانية وعشرين حرفا فزد عليها إن كنت صادقا، وأت بالحرف التاسع والعشرين. فبهت أبو العلاء ولم يعرف كيف يجيب. ومرت الأيام، ثم سأل أبو العلاء عن الغلام. فقيل له: قد مات. فقال أبو العلاء: قتله ذكاؤه”.

ذو الرمة وهو غيلان بن عقبة شاعر الفلوات وأفضل من وصف الصحراء وحيواناتها، يعتبر من فحول الطبقة الثانية من الشعراء في عصره، عاش أربعين عاما فقط، 77  إلى 117 للهجرة. وقد وصفه الشاعر الكميت بن زيد الأسدي وهو غلام بقوله “هذا والله ملهم. وما علم بدوي بدقائق الفطنة وذخائر العقل المعدة لذوي الألباب؟ لله بلاد هذا الغلام. ما أحسن قوله، وما أجود وصفه “.

إمام النحاة سيبويه الذي ولد في مدينة البيضاء التابعة لإقليم إصطخر جنوب إيران اليوم، اسمه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبْر، ولا يعرف بالتحديد متى ولد في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، وإن علم تاريخ وفاته بالتقريب سنة 180 هجرية. سيبويه فاق الكثير من أئمة العرب في معرفة علم النحو وأصوله وخباياه، وأضحى إمام مدرسة كبيرة في هذا المضمار، هي المدرسة البصرية التي ما تزال حتى يومنا هذا واحدة من المدارس الكبرى التي تستقى منها أصول علم النحو ووجوهه.

قرأت في بعض المصادر أنه خرج للحياة في العام 148 للهجرة، وقد أجمع كل الكتاب أن سيبويه مات في ريعان شبابه ولم يبلغ الأربعين، أي أنه قد توفي وهو في بدايات العقد الرابع من عمره القصير، حوالي 31 عاما فقط. ولكن السبب الرئيسي في موته المبكر، كما يجمع الكثير من المؤرخين هو مناظرته مع إمام المدرسة الكوفية الكسائي والتي عرفت باسم المسألة الزنبورية والتي كانت سببا في وفاته، بعدما شكلت حسرة وغصة واضحة في قلبه، حينما استعان الكسائي ببعض العرب الأقحاح ممن أيدوا وجهة نظره زورا وبهتانا خلال مناظرته الشهيرة مع سيبويه. وهنا تظهر لنا بجلاء الحساسية العالية والعاطفة الجياشة والنفس الزجاجية التي كانت من طبائع عالم اللغة الشاب سيبويه، والتي أدت إلى وفاته كمدا وحزنا.

أبوتمام وهو حبيب بن أوس الطائي، ولد في العام 188 للهجرة بمدينة جاسم وهي من أعمال حوران وتابعة لمحافظة درعا حاليا وله تمثال ينتصب في وسطها شامخا ومهرجان شعري سنوي تقيمه وزارة الثقافة السورية كل عام في محافظة درعا يحمل اسمه، وهو حاليا في موسمه الحادي عشر.

◄ الشاعر المصري الكبير أمل دنقل مؤلف قصيدة "لا تصالح" (1940 – 1983) رحل عن عالمنا وهو في الـ43 من عمره

توفي أبوتمام في الموصل في العام 231 للهجرة.

وهناك قصة معروفة ذكرت في الجزء الثاني من كتاب “شذرات الذهب” للفقيه والمؤرخ ابن العماد الحنبلي، تؤكد ما أذهب إليه في بحثي هذا؛ يروى أنه ذات يوم أنشد حبيب بن أوس قصيدته في مدح محمد بن عبدالملك الزيات ومطلعها: ديمة سمحة القياد سكوب/ مستغيث بها الثرى المكروب. سمعها أحد الفلاسفة الجالسين وقال “إن هذا الفتى يموت شابا، فقيل له: ومن أين حكمت؟ قال: رأيت فيه من الحدة والذكاء والفطنة، مع لطافة الحس وجودة الخاطر، ما علمت به أن النفس الروحانية تأكل من جسمه كما يأكل المهند من غمده”. وللأسف الشديد صدقت نبوءة الفيلسوف، ومات أبو تمام وهو يبلغ من العمر 43 عاما تقريبا.

وللتأكيد على ما ذهبت إليه في ورقتي البحثية هذه سأذكر على عجالة أبرز الأدباء ممن فقدتهم اللغة العربية وهم في ريعان الشباب بعدما ذكرت قسما كبيرا منهم في مادتي السابقة، كابن هانئ الأندلسي 326 – 362 هجرية، أي كان عمره 36 عاما عندما قتل بسبب قوله في مدح المعز: ما شئت لا ما شاءت الأقدار/ فاحكم فأنت الواحد القهار.

أذكر أيضا الشريف الرضي الذي نظم الشعر وهو في العاشرة من عمره 359 – 406 للهجرة، أي عاش 47 عاما فقط. الإمام الشافعي 150 – 204 هجرية، أي أن هذا النابغة الذي يحتاج إلى العديد من الكتب للحديث عن مآثره ومنجزاته، ومؤلف العديد من القصائد الرائعة التي تضاهي قصائد المتنبي وتتفوق عليها، لم يعش سوى 54 عاما.

وفي عصرنا الحديث نذكر العبقري اللبناني الكاتب والشاعر والرسام جبران خليل جبران، وهو ثالث أكثر شاعر بيعت كتبه في العالم، بعد شكسبير والشاعر الصيني لاو تزه. لم تدم حياته سوى 48 عاما (1883 – 1931 ميلادية).

◄ ذو الرمة وهو غيلان بن عقبة شاعر الفلوات وأفضل من وصف الصحراء وحيواناتها، يعتبر من فحول الطبقة الثانية من الشعراء في عصره، عاش أربعين عاما فقط

 كما نذكر شاعر الكويت الشهير وأول من أرسى قواعد الثقافة بها، فهد العسكر (1916 – 1951)، حيث أنه لم يعش سوى 35 عاما فقط. وقد أحرق أهله قصائده وعاش حياته وحيدا ومنبوذا من مجتمعه، يعيش في غرفة بائسة، إلى درجة أنه لم يشارك أحد في تشييعه ودفن وحيدا.

الشاعر المصري الكبير أمل دنقل مؤلف قصيدة “لا تصالح” (1940 – 1983) رحل عن عالمنا وهو في الـ43 من عمره. الشاعر الفلسطيني راشد الحسين (1936 – 1977) له أبيات رائعة في المقارنة بين نيويورك وحيفا يقول فيها: أتيت الطب في نيويورك أطلب منه مستشفى فقالوا: أنت مجنون ولن تشفى أمامك جنة الدنيا ولست ترى سوى حيفا. توفي راشد الحسين إثر حريق في منزله بنيويورك، ويذهب البعض إلى أنه حريق مفتعل. عاش 41 عاما فقط.

وخير ما نختم به هو الشهداء، كمؤسس الأدب الجزائري الحديث المكتوب باللغة العربية أحمد رضا حوحو الذي عاش 46 عاما (1910 – 1956) والذي بسبب نضاله ضد الاستعمار الفرنسي تم اعتقاله وتعذيبه وإعدامه في قسنطينة ربيع 1956 حيث عثر على جثمانه في مقبرة جماعية بعد الاستقلال.

والشاعر الفلسطيني الشهيد عبدالرحيم محمود (1913 – 1948) قد استشهد في معركة الشجرة، بسبب إصابته في عنقه ووجهه بشظية قذيفة، ودفن في مدينة الناصرة، حيث كانت رغبته ووصيته. وعبدالرحيم محمود هو صاحب الأبيات التي يحفظها القريب والبعيد والتي يقول فيها: سأحمل روحي على راحتي/ وألقي بها في مهاوي الردى/ فإما حياة تسر الصديق/ وإما ممات يغيظ العدى.

9