القاهرة تسوّق للانفتاح بالتوسع في ترخيص الصحف الإلكترونية

نجاح المواقع الجديدة مرهون بتوازنها بين النظام المصري والجمهور.
الثلاثاء 2024/01/09
تخمة إعلامية بلا فائدة

من المفترض أن تكون المواقع الجديدة التي منحت تراخيص رئة الصحافة في مصر، إلا أن ظهورها في أجواء بحاجة إلى المزيد من الانفتاح يجعلها تشبه من يحاول البحث عن منفذ للظهور، وبالتالي يتوقف نجاحها على مدى تقبل الحكومة لما تقدمه من محتويات جريئة بعيدا عن مطاردتها بإجراءات رقابية.

القاهرة - حمل قرار المجلس الأعلى للإعلام في مصر، والذي يقضي بمنح التراخيص المطلوبة لنحو ثمانين موقعا إخباريا جديدا، مؤشرا على وجود توجه رسمي نحو تطبيق التعددية والتنوع والتقنين، لكن الخطوة قد تصطدم بممنوعات سياسية تمثل عائقا أمام الصحف الإلكترونية الجديدة في سعيها للانتشار وتحقيق المنافسة.

وتريد الحكومة أن تظهر أمام الداخل والخارج بأنها منفتحة على الإعلام ولا تهدف إلى تقييد حرية حركته، وتعمل على شرعنة الصحف التي كانت تعمل بطريقة غير قانونية وتواجه مصير الغلق لكونها لم تحصل على التراخيص المطلوبة، في محاولة لإقناع خصومها بأنها ماضية في تهيئة المناخ العام وإطلاق الحريات الإعلامية.

وأتاحت الهيئات الإعلامية أمام أي موقع إخباري أن يتقدم للحصول على ترخيص رسمي بمزاولة المهنة، في خطوة تعبر عن وجود توجه نحو ترك الحرية أمام الإعلام للقيام بدوره الطبيعي بلا قيود صارمة أو إقصاء للأصوات المعارضة، غير أن المتابعة الدقيقة للكثير من الصحف الجديدة توحي بأنها نسخة من نظيرتها الحكومية.

سامي عبدالعزيز: تقنين أوضاع الصحافة الإلكترونية أمر ضروري لكل الأطراف
سامي عبدالعزيز: تقنين أوضاع الصحافة الإلكترونية أمر ضروري لكل الأطراف

ولم تقم الحكومة بتحركات جادة على الأرض لتهيئة المناخ العام أمام الإعلام، على مستوى المنابر المملوكة لها أو الصحف الإلكترونية الخاصة التي دخلت المنظومة مؤخرا، ولا يعرف الجمهور بالضبط هل المشكلة في الرقابة المفروضة على الإعلام أم في رؤساء تحرير وملاك المنابر الجديدة وخوفهم من الصدام مع دوائر النظام.

وتمثل خطوة منح التراخيص للعشرات من الصحف الإلكترونية بداية لتصحيح مسار مهنة الصحافة عموما، لأن الكثير من المواقع الرقمية غير القانونية أربكت المشهد الإعلامي بسبب عدم التزامها بالحد الأدنى من المعايير المهنية والأخلاقية وتجاوزها ميثاق الشرف الإعلامي والاعتماد على الإثارة أحيانا لتحقيق نسب مشاهدة مرتفعة.

ومع زيادة الخطوط الحمراء أو الممنوعات الحكومية استمرت القيود المفروضة على الإعلام لأنها تحد من دوره مقابل منح الفرصة لمنابر بعضها معاد للدولة، حيث يقوم بنشر وإذاعة معلومات مضرة بالدولة دون إدراك أن التجاهل الرسمي والإعلامي لأحداث بعينها لن يوقف آخرين عن تناولها بطريقة تتناسب مع أجنداتهم السياسية.

وقد يكون بعض المسؤولين عن إدارة الصحف والمواقع القديمة والجديدة مرتاحين لوجود قائمة ممنوعات تعفيهم من تحمل مسؤولية المعالجات الخاطئة التي يمكن أن تغضب السلطة، لكن ذلك يعزز مكاسب منصات التواصل الاجتماعي التي اكتسبت قوة وتأثيرا في مناقشة قضايا محظورة في الإعلام، ما أضر بالجميع.

ولم تصنع الصحف الرقمية الجديدة بعد حالة إيجابية تجعل الجمهور يتفاءل بمستقبل الإعلام في مصر، وأكبر دليل على ذلك أن الكثير من المواقع الإخبارية التي حصلت على تراخيص لم يسمع بها الناس، وهو ما يفسر لأي درجة تتجنب النسبة الأكبر من هذه المنابر ملامسة احتياجات وطموحات الجمهور، على الرغم من أنها خاصة.

ويفترض أن جميع المواقع الإخبارية التي حصلت على تراخيص بعد تقنين أوضاعها كانت تعمل بشكل فعلي منذ فترة، أيّ أنها موجودة في المشهد ولم تصنع الفارق الذي يجعل الناس يشعرون بتغير إيجابي في المنظومة، وسواء أصبحت هذه المواقع مشروعة أم لا، فهي في النهاية لن تقدم ما يطلبه الجمهور الناقم على إعلامه الرسمي.

خطوة منح التراخيص للعشرات من الصحف الإلكترونية تمثل بداية لتصحيح مسار مهنة الصحافة عموما

ويتفق عدد كبير من أبناء المهنة في مصر على أن أزمة الإعلام المحلي مرتبطة أساسا باستمرار خضوعه لتوجهات فوقية وتحكمه قائمة من الإرشادات أثرت على مصداقيته وتركت خلفها تداعيات سلبية على مستوى جماهيريته، مع أن الإعلام يمكن أن يخدم النظام والجمهور معا، إذا أتيحت الفرصة أمام جميع وجهات النظر دون انتقائية.

وتواجه التجارب الجديدة تحديات عدة، على رأسها القدرة على جذب عوائد مالية تشجعها على التطور في ظل تراجع الاستثمار في الإعلام وتوفير الحماية الاقتصادية والمهنية للعاملين والحصول على رواتب تتماشى مع ما يقدم من جهود، دون وجود ملاءة مالية قد لا يُكتب لها النجاح أو الاستمرارية.

ويعوّل خبراء الإعلام في مصر على أن يكون منح التراخيص للمواقع الصحافية الجديدة بداية لانطلاقة حقيقية نحو تقديم محتوى مهني، لأن هذه المنابر ربما امتنعت عن التغريد خارج السرب قبل الحصول على التراخيص خشية أن يتسبب ذلك في غلقها أو حرمانها من إجراءات التقنين التي تجعلها كيانا رسميا لا تستطيع الحكومة إسكاته.

وما يعزز نجاح التجارب الصحفية الجديدة في مصر أنها تعوّل على حماس صحافيين شبان يجدون صعوبات في الحصول على فرص عمل تبرز مواهبهم، ويبحثون عن منصات يمكن من خلالها تقديم أنفسهم، لاسيما وأن الكثير من الصحافيين تعرضوا للفصل من مؤسساتهم وكانوا ينتظرون فرصة دخول منابر جديدة للمهنة.

الكثير من المواقع الرقمية غير القانونية أربكت المشهد الإعلامي بسبب عدم التزامها بالحد الأدنى من المعايير المهنية

ويعكس إطلاق صحف إلكترونية كثيرة في مصر أزمة شح المنابر الخاصة، وذلك لم يكن بسبب مشكلات اقتصادية فقط، بل لشعور الكثير من الشغوفين بالإعلام بأن الظروف السياسية لا تشجع على المغامرة في مهنة مستهدفة حكوميا ومتربص بها أحيانا، لكن يبدو أن هناك شعورا ببوادر إيجابية أثارت طمأنينة المستثمرين الجدد.

ويحمل منح التراخيص للعشرات من المواقع الإخبارية ميزة مهمة لمهنة الصحافة نفسها، لأن الشروط التي حددها مجلس تنظيم الإعلام للترخيص صارمة، منها أن يكون 70 في المئة من الهيكل التحريري ممثلا بصحافيين أكفاء لهم تاريخ وسمعة ومصداقية، ورؤساء تحرير لهم سجل ورقم عضوية بنقابة الصحافيين، وتمويل الإصدار معروف.

وقال سامي عبدالعزيز، عميد كلية الإعلام في جامعة القاهرة سابقا، إن “تقنين أوضاع الصحافة الإلكترونية أمر ضروري لكل الأطراف، الحكومة والمؤسسة والجمهور، لتكون هناك محاسبة على أساس مهني، ولن يحدث ذلك قبل منح المشروعية للمهنيين، ومن شأن الخطوة خلق مرونة في حصول الصحافيين على المعلومات”.

وأكد لـ”العرب” أن “القارئ المصري يعيش حالة تشتّت غير مسبوقة ولا يعرف هل الموقع معترف به ومهني أم لا. ومن المهم أن تكون الخطوة اللاحقة لمنح التراخيص للصحف الإلكترونية نشر ثقافة المنافسة الإعلامية على أرضية مهنية قائمة على التوازن والموضوعية وتعدد الرؤى بعيدا عن لغة الإثارة من جانب البعض”.

والعبرة الأهم في نجاح المواقع الإلكترونية التي دخلت المشهد أخيرا أن تحافظ لنفسها على مسافة واحدة من الحكومة والجمهور، ولا تختار الاصطفاف خلف النظام، طالما أن هناك إشارات مبطنة بعدم وجود ممانعات لوجود مساحة من الحريات للعمل الإعلامي، شريطة عدم تقديم خدمة مجانية لجهات لها خصومة مع الدولة.

وتشير بعض الشواهد في مصر إلى أن النظام أصبح مقتنعا بأهمية وجود أصوات مختلفة ومنابر إعلامية تعمل بمهنية، باعتبار أن لديه قنوات وصحفا تحقق التوازن، وفي نفس الوقت يرفض توظيف مساحة الانفتاح في تأليب الرأي العام، بما يخدم من يراهم أصحاب أجندات مشكوك فيها، وهي خطوة جيدة لم يستثمرها الإعلام بعد.

5