"لا يجوز البكاء" رواية لليافعين تناقش خطأ تربويا كبيرا

رانية حسين أمين تواجه مفاهيم الرجولة المزيفة.
الجمعة 2024/01/05
من الخطأ ربط البكاء بالمرأة فقط (لوحة للفنانة هيا حلاو)

تعتبر فترة اليفاعة وصولا إلى المراهقة غاية في التأثير وتحتاج إلى مواكبة ومتابعة، خاصة في ظل أساليب التنشئة المغلوطة في مختلف المجتمعات العربية وهو ما تعالجه الكاتبة رانية حسين أمين في كتابها “لا يجوز البكاء” الذي اختير مؤخرا كأفضل كتاب (تأليف ورسوم) ضمن قائمة المجلس المصري لكتاب الطفل EBBY  لأفضل إصدارات دور النشر في كتب الطفل واليافعين 2021-2023.

“أنت رجل، الرجل لا يبكي” كلمة اعتدنا سماعها في البيوت موجهة للذكور، مخالفين بذلك الطبيعة البشرية في التعبير عن الحزن أو الخوف أو حتى الفرح، وهنا يتم التفريق بين طريقة التعبير عن المشاعر بين الجنسين، وكأن تلك الطريقة حكر على الإناث من دون الرجال، وتنتج عن ذلك جملة أخرى “البكاء للبنات” وكأنه تقليل من الولد أن يشترك مع البنت في شيء.

وهذا الموضوع هو ما اختارته رانية حسين أمين في روايتها لليافعين “لا يجوز البكاء” والتي اختارت لها قالبي الكوميكس المحبب لهذه الفئة العمرية، لتعرض علينا من خلال سرد ناعم قصة حب بين فتاة وشاب، كيف بدأت وكيف انتهت، وكيفية تأثير التنشئة الأولى على حياة الطرفين في الوقت الحاضر، مشيرة إلى أهمية مرحلة الطفولة في تشكيل شخصية اليافعين والبالغين، والرواية من رسوم حنان الكرارجي، ونشر دار نهضة مصر 2022.

البكاء المكتوم

"لا يجوز البكاء" رواية تربوية نفسية موجهة بالأساس إلى المراهقين لتعرفهم على أهمية التعبير عن المشاعر
"لا يجوز البكاء" رواية تربوية نفسية موجهة بالأساس إلى المراهقين لتعرفهم على أهمية التعبير عن المشاعر

يظهر على غلاف الرواية بروفايل فتاة ذات شعر أسود طويل، داخل صورتها رجل يبكي على صدره شروخ بنفس لون شعرها وكأن شعرها يملأ تلك الشروخ، الشاب مفتول العضلات يضع يده على صدره ويبكي، وتظهر تفاحة آدم على رقبته. غلاف الكتاب الخلفي اقتباسا من داخل الرواية لكيف رأت ماجي (بطلة الرواية) مالك (بطل الرواية)، وكيف رآها هو، وما الذي جذب كل منهما نحو الآخر.

تبدأ الرواية بطريقة الـ”فلاش باك” وفيها يتذكر كل من البطلين طفولته وأول يوم له في الحضانة، حين ذهبت ماجي مع والدها، وذهب مالك مع والدته، مع استعراض لأهم الفروق بين تجربة كلا الطرفين، فماجي حين بكت لوالدها أنها خائفة أن يتركها وحدها في مكان جديد مع أشخاص جدد، لم يطلب منها والدها أن تتوقف عن البكاء، والأجمل أيضا أنه سألها ابتداء بماذا تشعرين؟ وهنا لفتة تربوية ونفسية جيدة، فالأطفال عادة في مثل ذلك السن قد لا يحسنون التعبير عن مشاعرهم أو فهمها، وتظهر الصورة المرافقة للنص يدها الصغيرة وهي تمسك إصبعا واحدا من أصابع والدها، فهو الأمان بالنسبة إليها والطمأنينة.

على النقيض تأتي تجربة مالك، الذي يحكي تجربته السيئة أول يوم في الحضانة، وترى مدلول هذا اليوم السيء لديه في الرسوم كذلك، فالنص يوضح أن الأم لم تسأل ابنها عما يشعر به، وعندما سقطت دموعه وحدها رغما عنه سألته “لماذا تبكي؟” وكأنها لا تتوقع ومندهشة من بكائه، ليكون ردها بعد أن عرفت سبب بكائه “الصبيان لا يبكون” فأشعرته بالحرج لأنه ولد وكيف للولد أن يخاف؟ وتشبه بكاءه بالبنات، ليشعر الصغير بالخزي والعار فيبادر بمسح دموعه بسرعة ويكتم بكاءه، واللافت للنظر أنه استطاع وهو في هذه السن أن يصف حالة أمه الشعورية التي تحولت من التوتر إلى الغضب السريع بينما عجزت هي أن تعرف مدى خوفه وتطمئنه وتحتويه.

ولنجد فرقا آخر في مقارنتنا وهو أن الأب أوصل ماجي حتى يد المشرفة بينما لم تفعل الأم مع مالك، بل نزل هو من السيارة وأمسك بيد المشرفة لترافقه إلى داخل الحضانة.

هل يجوز البكاء؟

وعبرت حنان الكرارجي عن تلك المشاعر من خلال رسم مالك طفلا داخل بصيلة من شعر الأم الأسود يختبئ فيها خائفا يحتضن نفسه، ومشهدين آخرين أحدهما مصغر للمشهد السابق والآخر لدمعة داخلها نفس المشهد، إمعانا في ترسبات وتراكمات هذا المشهد داخل نفسيته وأنه لم يكن أبدا مجرد موقف عابر.

وهناك لمحة أخرى انتبهت لها في الرواية وهي المعلمة نفسها، حيث احتضنت الأطفال الذين يبكون ولم تحتضن مالك لأنه لا يبكي، وكأن البكاء هو الدليل الوحيد على الخوف، رغم أن كتمان البكاء فيه خوف مضاعف، خوف من البعد عن الأهل وخوف من النظرة له كولد يبكي.

رانية حسين أمين تشير في روايتها إلى أهمية مرحلة الطفولة في تشكيل شخصية اليافعين والبالغين
رانية حسين أمين تشير في روايتها إلى أهمية مرحلة الطفولة في تشكيل شخصية اليافعين والبالغين

وهنا تجدر الإشارة إلى أهمية الإعداد التربوي والنفسي لمعلمات دور الحضانات، ليكن على وعي بسيكولوجية تلك المرحلة التي يتعاملن معها، وكيف يساعدن الأطفال من الجنسين كل حسب شخصيته وليستطيعوا جميعا التعبير عن مشاعرهم وفهمها.

لذلك لم يكن غريبا أن يرفض مساعدة زميلته حين وقع، فقد عجز عن التعبير عن مشاعره، وتكونت لديه مفاهيم خاطئة عن الرجولة، حتى إنه سخط على من استطاعت التكيف سريعا مع وضع مازال مؤلما بالنسبة له.

وفي طلقات تربوية قامت رانية بإطلاق قذائفها لتنبه لعدد من الأخطاء التربوية الأخرى، فالكمالية تظهر في عبارة “نريدك أن تكون الأول على الفصل دائما”، والمقارنة في عبارة “لا تكن مثل ابن عمك الفاشل”، التخويف من المستقبل “وإلا لن تجد عملا في المستقبل”، “لن يكون لي ابن فاشل” عبارة من عبارات الحب المشروط والتي تتضح فيها أنانية الأم فما يشغلها صورتها في المجتمع وليس ابنها وصحته النفسية وثقته بنفسه وشعوره بالقبول في جميع أحواله.

لتمر السنين بالرفيقين حتى يلتحقا بالمدرسة الثانوية، ويتحول “مالك إلى شخص اجتماعي” مليء بالنشاط والحيوية، ويرى أن سر ذلك كان في قدرته على إخفاء مشاعره، ولكن يظل داخله نفس الطفل الخائف ونفس طريق النوم في وضع الجنين، وتحركت في نفس السن مشاعره نحوها، ماجي هذه “الفتاة الجميلة المنطلقة المحبة للحياة” لتتحول قصة الحب إلى ارتباط رسمي بعد وقت، ويتزوج الشابان.

ربما لفتني فقط جزء غريب عن ثقافتنا الشرقية وكأن الرواية موجهة لمراهقين من الغرب، حيث دعته ماجي إلى منزلها للتحضير لحفل، ولكنه سألها عن وجود والديها من عدمه، وحين أجابت نعم، رفض الدعوة وقال “لن أكون مرتاحا في وجودهما”، واستمر تجنبه مقابلة أهلها حتى دخولهما الجامعة، ليختار أن يلتحق بنفس الجامعة خوفا عليها من أن تحادث شبابا لا يعرفهم، ولعدم قدرته على الابتعاد عنها.

ويتخذ بعد وقت قرارا بمقابلة أهلها والزواج منها، وتستمر هي على حالها منطلقة ناجحة تترقى في عملها، ويستمر هو خائفا يخفي مخاوفه عنها حتى لا يظهر أمامها ضعيفا، لتشتد الخلافات بينهما فيمنعها من الرقص ومن الخروج مع صديقاتها، ويصل الأمر بينهما إلى قرار الابتعاد، وهنا تنفجر دموع مالك لأول مرة، وهنا ينفتح الصندوق الأسود داخله أمامها لترى ما كان يخفيه، وليعبر دون خوف عن مشاعره الحقيقية، ويتساءل ماذا لو تركته أمه يبكي ذلك اليوم؟

الرجولة المزيفة

البكاء تعبير بشري محاط بالحزن والخوف والفرح
البكاء تعبير بشري محاط بالحزن والخوف والفرح

“لا يجوز البكاء” رواية تربوية نفسية موجهة للمراهقين، تعرف البنات سبب عدم قدرة بعض الرجال على التعبير عن المشاعر، وتعرف المراهق أهمية التعبير عن المشاعر وتنبه إذا حدث معه نفس الموقف وسمع نفس العبارات السائدة في المجتمعات الشرقية في طفولته.

أتخيل لو انتبهت الأسرة لأهمية تربية الأبناء على التعبير عن المشاعر وعدم كبتها، سيؤثر ذلك بشكل إيجابي على نفسيتهم، وعلاقاتهم، وسيكونون أكثر سعادة، فكبت المشاعر يخرج في صور عدة، منها العنف، سرعة الغضب، سلوكيات غير مفهومة وغير مبررة، كما أنها تنطوي على تربية على مفاهيم الرجولة المزيفة وليس الرجولة الحقيقية، ومن العبارات الجميلة في وصف الرجولة الحقيقية التي أرى أنها يجب أن تسود “لا يجب أن نقول للذكور لا تبكوا، ولكن يجب أن نعلمهم أن الرجل لا يبكي امرأة”.

رانية حسين أمين تكتب بعمق نفسي وفهم كبير للمرحلة التي تكتب عنها، ولذلك فإن كتابتها تكون مليئة بالمشاعر

ورغم أن هذه الرواية ليست العمل الأول الذي أقرأه لرانية حسين أمين، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي أكتب عن أحد أعمالها، لما تتمتع به كتابتها من روح خاصة بها، فهي تكتب بعمق نفسي وفهم كبير للمرحلة التي تكتب عنها، ولذلك فإن كتابتها تكون مليئة بالمشاعر، ولن تستطيع وأنت تقرأ لها إلا أن تندمج في حالة شعورية مع أبطال العمل وتتعاطف معهم بشكل كبير.

جدير بالذكر أن رانية حسين أمين كاتبة ورسامة كتب أطفال، بدأت الكتابة بسلسلة “فرحانة” للصغار، ولها حوالي 50 مؤلفا لأعمار مختلفة من 3 حتى 16 سنة. كما قامت بتأليف كتاب “والكثير من الحب” للآباء والأمهات عن التربية السليمة للطفل. تقوم بجلسات للأهالي عن تربية الطفل، وتقدم كذلك ورش عمل عن الكتابة للطفل. درست رانية علم النفس بالجامعة الأميركية، وعملت أخصائية نفسية في العديد من المدارس، وهي الآن متفرغة للكتابة والرسم.

أما الرسامة حنان الكرارجي فهي رسامة كوميكس ومصممة شخصيات وصانعة دمى،  شاركت بأعمالها في العديد من مجلات الأطفال العربية. كما نشرت لها كتب مصورة للكبار من أهمها “تأثير الجرادة” مع الدكتور أحمد خالد توفيق، والتي حازت على جائزة القصة المصورة في مهرجان “كايرو كوميكس”، بالإضافة إلى مشاركتها في مهرجانات عالمية.

ألهمت حنان الكثيرين من خلال محاضرتها بعنوان “تطور الوعى من خلال الإبداع” في TEDxERU، كما تقيم العديد من الورش الفنية للأطفال والكبار.

13