البرلمان الغاضب من تراجع دور الإعلام المصري يمهد لتغييرات في المشهد

الجهل بالتحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية يتحمله الإعلام قبل أي جهة أخرى.
الخميس 2023/12/28
نقل لرواية رسمية جافة.. فقط

ارتفع سقف طموحات العاملين في وسائل الإعلام المصرية باقتراب حدوث تغيير واسع داخل المنظومة، بعدما دخل مجلس الشيوخ على خط الأزمة التي ضربت المشهد وتسببت في تراجع دور الإعلام على وقع زيادة منسوب الفوضى وغياب المهنية أحيانا وتراجع الحريات الإعلامية في خضم تصاعد التحديات التي تواجهها الدولة.

القاهرة - أبدت لجنة الإعلام في مجلس الشيوخ المصري (الغرفة الثانية للبرلمان) تحفظها على تراجع دور المنابر الإعلامية، مقابل اتساع رقعة الأمية المجتمعية بالتحديات الراهنة، ولجوء الناس إلى الإعلام البديل، وما سبّبه من أزمات مضاعفة وانتشار المعلومات المغلوطة والأفكار المتطرفة، ما يستدعي سرعة اتخاذ إجراءات لتقوية الإعلام التقليدي للقيام بدوره الحقيقي.

واتفق النواب ومعهم كرم جبر رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، خلال جلسة عقدها مجلس الشيوخ أخيرا، على ضرورة استمرار الضوابط التي يلتزم بها الإعلام ومنها ألا يزج بنفسه في أي خلاف إقليمي، ويعمل دائما على لم الشمل واحترام شأن الدول الأخرى وألا يتم توظيفه في تصفية الحسابات، لكن من المهم للغاية “تقويته لزيادة قدرته على تشكيل وعي المواطنين بشأن الأزمات المختلفة”.

وتساءل أعضاء مجلس الشيوخ عن الإجراءات التي تم اتخاذها لوجود إعلام مصري يؤثر على الإقليم، لأن القاهرة أصبحت بحاجة ملحة إلى نقلة نوعية واستثنائية في مجال الإعلام، والتحرك نحو عدم اعتباره وسيلة لنقل المعلومات، لكن أيضا يسهم في تشكيل توجهات المجتمع في الجوانب الحياتية المختلفة، دون التركيز على جانب بعينه.

صفوت العالم: التحرك البرلماني مهم لحل مشاكل الواقع الإعلامي
صفوت العالم: التحرك البرلماني مهم لحل مشاكل الواقع الإعلامي

ويمر الإعلام المصري بحالة تخبط في ظل هيمنة الصوت الواحد على الرسالة الموجهة إلى الجمهور، بدعوى أن ذلك من صميم دور الصحف والقنوات وقت التحديات، لكن هذه السياسة تشكل معضلة حقيقية أمام الإعلام في إقناع الناس بالرسائل الموجهة، ولو كانت من السلطة نفسها ما جعل النظام يتخوف من تراجع منسوب الوعي عند المواطنين.

ويعتقد مراقبون أن التحرك البرلماني الغاضب من تراجع دور الإعلام يمهد لتغييرات مرتقبة في المشهد برمته، لاسيما عقب فوز الرئيس عبدالفتاح السيسي بولاية رئاسية ثالثة قبل أيام، وتثبيت أركان الدولة أمنيا وسياسيا، ولم تعد هناك حاجة إلى استمرار هيمنة الصوت الواحد والاصطفاف خلف الحكومة في الصواب والخطأ، بقدر ما يتطلب الأمر تعددية وحرية ومزيدا من المهنية.

ويرفض عاملون في الإعلام بمصر استمرار المنابر الإعلامية على حالتها الراهنة دون تغييرات تعيد لها اعتبارها وتسمح لها بممارسة دورها بحرية وبلا تدخلات فجّة في السياسة التحريرية، لكن تظل الأزمة في عقلية بعض المسؤولين عن إدارة وسائل الإعلام والمنظومة برمتها، واقتناعهم بأن التحديات تفرض رسم المزيد من الخطوط الحمراء.

وما يبعث على الاطمئنان في نفوس البعض أن لجنة الإعلام في مجلس الشيوخ التي انتقدت تراجع دور الصحف والقنوات وأبدت امتعاضها من تراجع تأثير الإعلام محليا ودوليا، أغلب أعضائها من المقربين للحكومة ودوائر صناعة القرار السياسي، وهؤلاء ليس من العادة أن يتحركوا من تلقاء أنفسهم، بل عبر تفاهمات مع جهات رسمية اعتادت توظيف بعض النواب لفتح ملفات بعينها.

وأصبحت قضية الوعي حاضرة بكثافة في خطابات الرئيس السيسي، ما يعكس مخاوفه من العشوائية في النواحي السياسية والاقتصادية والفكرية وتأثيرها على الأمن والاستقرار مع ارتفاع نسبة الأمية في المجتمع إلى مستويات صادمة، لكن مشكلة بعض الجهات القائمة على إدارة الإعلام تكمن في أنها مقتنعة بأن دورها الأساسي هو الوقوف خلف الحكومة وأن نشر الإيجابيات أصل التوعية.

بعض وسائل الإعلام المصرية تعاني من تخبط في الأولويات حتى صارت بعيدة عن تطلعات الجمهور ورؤى وقناعات السلطة نفسها

وتعاني بعض وسائل الإعلام المصرية من تخبط في الأولويات حتى صارت بعيدة عن تطلعات الجمهور ورؤى وقناعات السلطة نفسها، حيث أصبح الخطاب الذي يتم توجيهه إلى الداخل والخارج، حتى وقت التحديات، إما روايات رسمية جافة بلا شرح عميق للمحتوى أو تحليلا للمشهد، أو عبارة عن جلسات فضفضة تلفزيونية لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تفيد الجمهور.

ويُدرك الرئيس السيسي أن جزءا أصيلا من الأمية بشأن التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية، يتحمله الإعلام قبل أي جهة أخرى، لأنه يغوص في قضايا هامشية، وإذا تناول أي ملف مرتبط بأزمة يناقشها بشكل سطحي ودون تعمق لتوصيل رسائل مقنعة للناس، ولم يعد هناك بديل عن إدخال تعديلات على المنظومة لعودة الإعلام وسيطا بين النظام والشارع.

ويدافع البعض من العاملين في المهنة عن توجهات الإعلام بأنه مغلوب على أمره، لوجود عوامل خارجة عن إرادته جعلته غير قادر على القيام بدوره مع توجيه الرسالة إلى ناحية بعينها وإلزامه بالعمل في إطار لا يسمح له بحرية التحرك والتوغل في المحتوى المقدم للجمهور، مع أن أي إعلام يريد النجاح في مهمته عليه أن يتحرر من القيود وتتاح له حرية الحصول على المعلومات.

ويتفق خبراء على أن الإعلام في أي بلد عندما يتحلل من القيود يستطيع مواجهة الفجوة بين الوعي واللاوعي من خلال نقل ما يجري على الأرض بموضوعية، وحينها لن تحتاج الحكومة إلى من يدافع عنها أو يصطف خلفها ليحميها من الأمية المجتمعية وقت التحديات، لكن العبرة في انتقاء كوادر ومسؤولين عن المنظومة يدركون هذه المعادلة.

عاملون في الإعلام بمصر يرفضون استمرار المنابر الإعلامية على حالتها الراهنة دون تغييرات تعيد لها اعتبارها

وقال صفوت العالم أستاذ الإعلام السياسي بجامعة القاهرة إن “التحرك البرلماني من خلال مجلس الشيوخ، الذي له صلة وثيقة بملف الإعلام، بداية مهمة لتشريح الواقع الإعلامي وحل مشكلاته بواقعية، والرئيس السيسي بحاجة إلى إعلام قوي وتحقيق ذلك ليس معضلة، المهم أن تتوافر المصداقية والمعلومات والمهنية واختيار وجوه تملك القدرة على التأثير، وكلها أدوات مطلوب تفعيلها فقط ليشعر الجمهور بتطور المنظومة”.

وأضاف لـ”العرب” أن “الدولة وقت التحديات عليها أن تستثمر الإعلام كسلاح قوي في علاقتها بالداخل والخارج، ويجب تسريع إعادة ترميم العلاقة بين الجمهور والمنابر المختلفة لأن تشكيل الوعي عملية تراكمية تتأسس على كشف الحقيقة أوّلا بأوّل، ولا يجب أن يكون الإعلام رد فعل أو يضع نفسه في خانة المدافع عن المؤسسات بلا توازن في الرسالة المقدمة إلى الجمهور المستهدف”.

وعلى المستوى المصري فإن غالبية وسائل الإعلام بحاجة إلى توعية مسؤوليها بالمسار الصحيح للمهنة، قبل أن توضع على أكتافهم مهمة الوعي، لأن هناك برامج وصحفا ومواقع إخبارية متهمة بتزييف الوعي عبر التركيز على قضايا سطحية لمجرد أنها مطلوبة ومطروحة للنقاش على شبكات التواصل الاجتماعي وتحظى باهتمام شريحة من الجمهور.

وأصبحت الحكومة بحاجة إلى الاقتناع بصعوبة نجاح الإعلام في مهمته واستعادة تأثيره طالما استمرت بعض الوجوه الإعلامية التي أصبحت تقوم بتضليل الجمهور عن قصد أو جهل، مع أن هناك كفاءات تمت تنحيتها لصالح أهل الثقة من ضعفاء المستوى، ما يعني أن المنظومة قادرة على التعافي، لكن العبرة في مدى توافر إرادة حكومية لحُسن توظيف الإمكانيات والأدوات.

وثمة شريحة معتبرة من الجمهور المصري لا تمانع في استمرار تبعية مؤسسات إعلامية لجهات حكومية، لأن هذه ميزة يمكن الاستفادة منها وقت الأزمات السياسية، لكن من المهم أن تتحلى بمصداقية عالية، والاستفادة من قربها من السلطة لتسويق خططها ورؤيتها تجاه التحديات الراهنة بطريقة محترفة، ومن الذكاء السياسي أن يتم الحفاظ على هذه المكانة لترميم شعبية الإعلام.

وإذا نجح البرلمان في الوصول بالإعلام إلى الاستقلال والحرية فإن تفعيل ذلك بشكل واقعي يتطلب أن تصبح الهيئات الإعلامية مستقلة القرار أيضا وليست كيانات منزوعة الصلاحيات، فإذا كانت الحكومة لديها نية الإصلاح والتطوير ومنح الإعلام قوة التأثير بصورة حقيقية عليها أن تحدد من له الكلمة العليا في إدارة المنظومة، الهيئات الإعلامية أم كل جهة تملك مؤسسة إعلامية؟

5