بعد الأحزاب، الجمعيات تحت أنظار السلطة في تونس

قيس سعيد: إحدى المنظمات حصلت على تمويلات مشبوهة من الخارج.
السبت 2023/12/09
الإرادة متوفرة لمحاربة الفساد

تسعى السلطات التونسية إلى فتح ملف الجمعيات المعقّد، حيث مثل العمل الجمعياتي نافذة على نشاط الأحزاب والحياة السياسية واستغلته بعض الأطراف في حملاتها الانتخابية خدمة لأجندات خاصة وأخرى خارجية، وسط ترجيحات المراقبين بأن الملف رافقته شبهات فساد مالي، في ما بات يعرف في البلاد بـ”العشرية السوداء”.

تونس - أثار الرئيس التونسي قيس سعيد ملف التمويل الأجنبي للجمعيات والمنظمات في تونس، فضلا عن استشراء ممارسات الفساد في المؤسسات المالية، ما يهدد السيادة الوطنية للبلاد.

وتطرح مصادر تمويل الجمعيات عدة تساؤلات لدى الأوساط السياسية والحقوقية في تونس، حيث يذهب مراقبون إلى اتهام بعضها بتوظيف التمويل الأجنبي في الحملات الانتخابية للأحزاب واستقطاب الفئات الشعبية الهشة لتعزيز الخزان الانتخابي في استحقاقات السلطة خلال العشرية الماضية.

ومثّل التدقيق في ملف تدفق المال الخارجي على بعض الأحزاب والجمعيات على اختلاف صبغتها وأنشطتها، مطلبا سياسيا وشعبيا خصوصا بعد إجراءات الرئيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو 2021.

وكان التمويل الأجنبي أحد مصادر الدعم المتاحة للجمعيات بموجب المرسوم عدد 88 لسنة 2011. وعلى الرغم من  الدور الاجتماعي الفعّال لبعض الجمعيات في الكثير من الأنشطة على غرار الممارسة الديمقراطية وحقوق المرأة وغيرها، إلا أنها لم تسلم من توظيف سياسي و”أيديولوجي” يعزّز تموقع أصحابها في المشهد.

وشهدت تونس طفرة في تأسيس الجمعيات منذ 2011 من 9 آلاف جمعية إلى أكثر من 23 ألف جمعية في السنتين الأخيرتين حسب إحصائيات نشرها مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات، أغلبها ذات توجهات يمينية، كما توجد قرابة 15 ألف جمعية يصعب التثبت في مصادر تمويلها.

طارق الكحلاوي: هناك أعمال واضحة لاستغلال الجمعيات في المشهد السياسي
طارق الكحلاوي: هناك أعمال واضحة لاستغلال الجمعيات في المشهد السياسي

فيما بلغ عدد الجمعيات الأجنبية الناشطة في تونس 200 جمعية، منها 155 جمعية مقرها في ولاية (محافظة) تونس و14 جمعية في ولاية أريانة، فيما تتوزع بقية الجمعيات الأجنبية على ولايات أخرى.

وأكد سعيد أن إحدى المنظمات تحصلت على تمويلات من الخارج بقيمة 7.615 مليون دينار (2.5 مليون دولار) من 2016 إلى 2023 باسم المجتمع المدني، مؤكدا حدوث العديد من التجاوزات في ملف الجمعيات ما يهدد السيادة الوطنية.

وقال خلال لقاء جمعه بوزيرة العدل ليلى جفال ”ليس تضييقا على الجمعيات أو المجتمع المدني لكنها كانت امتدادا للأحزاب وللمخابرات الأجنبية.. هؤلاء استباحوا الدولة ولابد من وضع حد لهذا الوضع ولابد للقضاء أن يلعب دوره في البلاد”.

وأشار إلى أنه “لا يمكن أن نطهر البلاد بمثل هذه المؤسسات ونترك هؤلاء المجرمين يعبثون بمقدرات الشعب التونسي”، في إشارة إلى بعض الجمعيات المدعومة من الخارج.

وتابع قيس سعيد ”أين كانت مؤسسات مكافحة الفساد التي كان من الواجب أن تقوم بواجبها في حين أنها انخرطت مع هؤلاء الفاسدين”.

وعبّر عن استغرابه من تفشي الفساد في كامل مؤسسات البلاد متوعدا بتطهيرها وعدم التراجع رغم الضغوط، قائلا “لا ترى سوى مظاهر الفساد والخراب وآن الأوان لوضع حد لهؤلاء.. ولا رجوع إلى الوراء أبدا”.

كما هاجم سعيد مؤسسة الكرامة القابضة متهما إياها بالدوس على كرامة التونسيين وبارتكاب تجاوزات عديدة.

وليست المرة الأولى التي يؤكد فيها الرئيس التونسي على ضرورة مكافحة ظاهرة التمويل الأجنبي للجمعيات والتصدي لذلك وفقا لقوانين تراقب تدفق الأموال المشبوهة.

وفي نوفمبر الماضي، حلّ القضاء التونسي عددا من الأحزاب والجمعيات بشبهة التمويل الأجنبي وفي قضايا ترتبط بالشفافية المالية ومصادر التمويل.

واعتبر الناشط السياسي طارق الكحلاوي أن “ما يثير التساؤل في تصريح الرئيس سعيد هو حجم الأموال الكبير، كما يطرح ذلك إشكالا قانونيا حول طرق تمويل الجمعيات التي يشتغل جزء كبير منها لصالح العمل الحزبي، وهو ما يعتبر غير قانوني”.

وأضاف لـ”العرب” أن “الرئيس أكد مرارا أن الهدف ليس التضييق على الجمعيات، وكشف أيضا حجم الرواتب الكبير والمبالغ الطائلة للكرامة القابضة”، لافتا إلى أن “التداخل ضرب العمل الجمعياتي وأفقد جزءا من الجمعيات مصداقيتها”.

ولفت الكحلاوي إلى أن “أبرز الأحزاب السياسية بعد ثورة يناير 2011، على غرار حركة النهضة وحزب قلب تونس، استخدمت الجمعيات في العمل السياسي، فضلا عن حزب الاتحاد الوطني الحر الذي قاده رجل الأعمال سليم الرياحي واستغل جمعية رياضية (النادي الأفريقي) للتسويق لصورته السياسية في انتخابات العام 2014”.

وأشار الناشط السياسي إلى أنه “كان من المفترض أن يتخلص العمل الجمعياتي من جبّة النشاط الحزبي، وربما مشروع القانون الذي يطرحه الرئيس قد يتضمن سقفا معينا للتمويل الأجنبي”، مؤكدا أنه “بعد 2011 كانت هنالك حيوية في المجتمع التونسي ورغبة كبيرة من التونسيين في الانخراط في الجمعيات والأحزاب، لكن هناك أعمالا واضحة لاستغلال ذلك في المشهد السياسي”.

وتنشط هذه الجمعيات تحت يافطة العمل الخيري، وتعمل على اختراق النسيج الاجتماعي وتقديم نفسها سندا للمواطنين، وتعتبر أداة من أدوات أخونة المجتمع وغطاء لكل التحويلات المالية المشبوهة.

المنذر ثابت: التمويل الخارجي يتم وفقا لبرامج المنظمات الأم
المنذر ثابت: التمويل الخارجي يتم وفقا لبرامج المنظمات الأم

وسبق أن كشف تقرير لمحكمة المحاسبات في تونس أن حجم التمويلات الأجنبية التي استفادت منها الجمعيات، وفق المعطيات المتوفرة لديها، بلغ 68 مليون دينار (25.15 مليون دولار) سنة 2017 و78 مليون دينار (28.85 مليون دولار) سنة 2018 في وقت لم تُعلم فيه 566 جمعية الحكومة بتلقيها تمويلات أجنبية المصدر.

وقال المحلل السياسي المنذر ثابت “التمويل الخارجي يتم وفقا لبرامج يتفق حولها وموضوع اهتمام من المنظمات الأم، وبالتالي البرامج توجد على مدى زمني محدد وبجملة من الأهداف، كما أن الأموال لا تمنح بطريقة عشوائية”.

وأكد في تصريح لـ”العرب” أن “هناك من هو متفرّغ للعمل بتلك المنظمات والجمعيات في نشاطها، والحديث عن فساد داخل الجمعيات يحتاج إلى تدقيق، ذلك أنه نشأت بعد 2011 جمعيات وتم دعمها وفق اهتمامات البلدان الغربية وهي مرتبطة بها لقصدية سياسية”.

واعتبر ثابت أن “موقف الرئيس قد يصيب جزءا معينا من الجمعيات، وهناك منها من ترتبط بأجندات وإستراتيجيات أجنبية لإخضاع القرار الوطني للتأثير الخارجي”.

وكان الاتحاد الأوروبي صنف تونس في 2018 ضمن القائمة السوداء للدول عالية المخاطر لغسيل الأموال وتمويل الإرهاب، بسبب قصور في تشريعاتها.

واعتمد التكتل الأوروبي في تصنيفه على تقرير مجموعة العمل المالي الدولية (غافي)، قبل أن تتم مراجعته لاحقا بعد إصلاحات قانونية اتخذتها تونس ليتم سحبها من القائمة السوداء في 2020.

4