التزام أسر مصرية بتنظيم النسل يعكس وعيا وخوفا من المستقبل

استجابة 75 في المئة من الأسر تؤكد نجاح حملات التوعية الحكومية.
الخميس 2023/11/09
تحديد النسل يعود بالفائدة على جميع أفراد الأسرة

نجحت الحكومة المصرية في إقناع الأسر بضرورة تحديد النسل وذلك من خلال حملات التوعية وتوفير وسائل تنظيم الإنجاب بشكل مجاني ما ساهم في ارتفاع معدلات تنظيم الأسرة. وقد عاضدت المؤسسات الدينية مجهودات الحكومة وذلك بتوجهها إلى الأسر بخطاب عقلاني مفاده أن كثرة الإنجاب تحرم الأطفال من عيش حياة مستقرة، وهو ما يتعارض مع الشرع.

القاهرة - أظهرت أرقام صدرت عن الحكومة المصرية أخيرا اتساع دائرة الأسر المؤمنة بحتمية تنظيم النسل والاكتفاء بعدد محدد من الأبناء، بعدما توصلت وزارة الصحة إلى أن 75 في المئة من الأسر اقتنعت ببرامج التنظيم التي تقدمها الحكومة، بعد أن كانت هذه النسبة قبل ثلاثة أعوام فقط أقل من 50 في المئة.

وأرجع مسؤولون في منظومة الصحة والسكان بمصر ارتفاع معدلات تنظيم الأسرة لهذا الحد إلى نجاح البرامج الحكومية في إقناع الأهالي من خلال حملات التوعية والنزول إلى أرض الواقع والحديث مباشرة مع أرباب الأسر والعائلات الكبيرة، وتوفير وسائل تنظيم الإنجاب بشكل مجاني دون تحمل الأسرة أعباء مادية.

وتتعامل الحكومة المصرية مع كثرة معدلات الإنجاب باعتبارها خطرا لا يقل عما يمكن أن يسببه الإرهاب من مشاكل، لأن الزيادة السكانية تقضي على جزء معتبر من معدلات التنمية في البلاد، وهو ما دفع مؤسسات مختلفة معنية بالتعامل مع القضية إلى المزيد من الاهتمام والتعاطي معها كأزمة دولة وليست أزمة وزارة بعينها.

الحكومة المصرية تتعامل مع كثرة معدلات الإنجاب باعتبارها خطرا لا يقل عما يمكن أن يسببه الإرهاب من مشاكل

وتبدو خطط الحكومة غير مؤثرة بشكل لافت في تغيير قناعات الناس والأسر، لكن الظروف المعيشية قادت النسبة الأكبر من الأسر التي التزمت بتنظيم النسل إلى هذا الخيار مدفوعة بعدم القدرة على الوفاء باحتياجات الأبناء المادية، واكتفت بعدد محدد أمام شح الموارد وزيادة أسعار السلع والخدمات.

من هؤلاء باسم سعيد الذي قرر الاكتفاء بإنجاب طفلين فقط، بعد أن كان ينوي عدم منع زوجته من الإنجاب وطالما ظروفها الصحية تسمح بذلك، إلا أنه لم يعد قادرا على توفير الحد الأدنى من احتياجات أولاده، على الرغم من أنه يعمل في وظيفتين، الأولى بإحدى الشركات صباحا، والثانية سائق سيارة خلال فترة المساء.

يدرس الطفلان في مدرسة خاصة، لأن الأب يرغب في أن يتلقيا تعليما جيدا بعيدا عن تكدس المدارس الحكومية، وأمام كثرة متطلباتهما من دروس ومستلزمات تعليمية، فضلا عن احتياجات المنزل، قرر بالاتفاق مع زوجته عدم الإنجاب مجددا.

وأقر الأب في حديثه مع “العرب” بأنه سمع الكثير عن حملة تنظيم الأسرة التي أطلقتها الحكومة، لكنه لم يكترث بمضمونها أو أهدافها، ولم يستفد منها سوى أنه اصطحب زوجته إلى أحد المراكز الصحية لتركيب وسيلة لعدم الإنجاب مجانا، لكنه لم يفعل ذلك استجابة لخطاب السلطة بل عن قناعة شخصية.

ولدى باسم أقارب في مناطق ريفية ينتمون إلى عائلته فعلوا نفس الأمر بعدما وجدوا أنهم أمام ظروف معيشية قاسية، ولم تعد مواردهم المالية تتحمل المزيد من الأبناء فقرروا الاكتفاء بعدد محدود من الأطفال واعتماد وسائل تنظيم النسل عن وعي.

وقد انسحبت الحكومة من دعم الكثير من السلع والخدمات الأساسية لأسر مصرية عديدة، بعد أن شعرت بحتمية اتخاذ مثل هذا القرار كي لا يشعر الناس بأنهم مهما أنجبوا ستوفر لهم الدولة احتياجاتهم الأساسية مجانا، وهي ثغرة سدّتها الحكومة ودفعت الناس إلى مراجعة حساباتهم.

السيدة ولاء حمدي، وهي أم لثلاثة أبناء، فسّرت انصياع الأسر لوسائل تنظيم الإنجاب بأن الحكومة نجحت في إدخال الزوج نفسه طرفا في المعادلة، ووجهت إليه خطابا خاصا، لأنه صاحب كلمة في مسألة الإنجاب من عدمه، لذلك جنت ثمار ذلك سريعا.

وأهملت الحكومة المصرية في معركتها مع كثرة الإنجاب الرجل وركزت جهودها على التحدّث إلى النساء، وذلك في حملاتها الدعائية والدينية دون اكتراث بأن إقناع الأسرة بتنظيم النسل يبدأ من الزوج والزوجة معا.

الاكتفاء بعدد محدد من الأبناء خيار إستراتيجي
الاكتفاء بعدد محدد من الأبناء خيار إستراتيجي

وقالت ولاء لـ”العرب” إن “زوجها طالبها بألا تتوقف عن الإنجاب لأنه يرغب في تكوين عائلة كبيرة مثل والده، وفي العرف المجتمعي من الصعب أن ترفض المرأة هذا الطلب، لكن الحكومة انتبهت لذلك وأطلقت حملة موسعة موجهة إلى الرجل خصيصا، فاقتنع زوجها وعدّل موقفه بشأن مواصلة الإنجاب”.

ومن المحظورات الاجتماعية في الكثير من المناطق الريفية والشعبية بمصر أن تذهب المرأة إلى مركز تنظيم الأسرة دون موافقة الزوج بحجة أن ذلك من الأمور المعيبة، وينظر إلى ترشيد النسل على أنه يتعارض مع إرادة الله ويرتقي إلى مرتبة المحرمات الدينية، وهو ما نفته مؤسسات الفتوى كليا.

ونجحت التيارات الدينية المتشددة طوال السنوات الماضية في إقناع بعض أرباب الأسر بأن أي تدخل في مسألة تنظيم الأسرة وتحديد عدد الأبناء سوف يقابله عقاب إلهي، لكن الهجمة المرتدة التي قامت بها المؤسسة الدينية الرسمية نسفت هذه الادعاءات أو قللت من أهميتها، لأنها ربطت الفقر بكثرة الإنجاب دون وعي.

وتوحدت مؤسسات دينية عدة خلف الحكومة في العامين الماضيين لتوجيه خطاب عقلاني إلى الأسر، مفاده أن هناك تبعات غير إنسانية جراء كثرة الإنجاب، مثل زيادة الفقر وعدم القدرة على توفير الغذاء والملبس والتعليم والصحة والسكن، وهو ما يتعارض مع الشرع.

ويصعب فصل توسع دائرة العائلات المهتمة بتنظيم النسل عن الخطة التي تحركت من خلالها مؤسسات توعوية، سواء أكانت منظمات حقوقية أم مجتمعا مدنيا أو حتى دينيا، وتم النزول إلى أرض الواقع والاستماع لوجهات نظر فئة مؤمنة بكثرة الإنجاب وإقناعها بالتنظيم بحوار مباشر.

الظروف المعيشية قادت النسبة الأكبر من الأسر التي التزمت بتنظيم النسل إلى هذا الخيار مدفوعة بعدم القدرة على الوفاء باحتياجات الأبناء المادية

وترتب على ذلك أن 78 في المئة من السيدات اللاتي قمن بزيارة مراكز الأسرة برفقة أزواجهن قررن استخدام وسائل تنظيم الأسرة، بل إن ذلك حدث في محافظات تصنف ضمن الأعلى في معدلات الخصوبة، وتُعْرف بكثرة الإنجاب لأسباب اجتماعية واقتصادية (وفق إحصاءات وزارة التضامن المصرية).

وأكد محمد هاني، استشاري العلاقات الأسرية وتقويم السلوك في مصر، أن تماهي الكثير من العائلات مع تنظيم الأسرة يعكس زيادة منسوب الوعي والتعاطي بعقلانية مع الأزمات الحياتية، بعيدا عن ميراث يعتبر كثرة الأبناء عزوة وسندا اقتصاديا.

وأوضح لـ”العرب” أنه لا يمكن التأكيد على أن كثرة المؤمنين بتنظيم الأسرة اقتنعوا به استجابة للحكومة، لكنهم لجأوا إلى هذا الخيار أمام الضغوط المعيشية ونجاح المؤسسات الدينية في توجيه خطاب عقلاني يقوض التشدد في زيادة الإنجاب، إضافة إلى زيادة وعي أرباب الأسر من الشبان والفتيات.

ولفت هاني إلى أن خطاب التشدد الذي يربط التدين بكثرة الإنجاب لم يعد مؤثرا كما كان في قناعات الكثير من الأسر، وما يحدث حاليا يشير إلى وجود تفكير من جانب الآباء والأمهات في اقتصار الأمر على عدد محدود من الأبناء لتربيتهم وتعليمهم وتثقيفهم بشكل صحيح، بدلا من حرمانهم.

وتظل الإشكالية الأكثر تعقيدا مرتبطة بانتشار ظاهرة الزواج المبكر الذي فشلت معه كل الحلول التي تبنتها المحكمة المصرية، ما يفرض عليها أن تقوم بجهود مضاعفة، لأن تنظيم الأسرة مقابل زيادة معدلات زواج القاصرات سوف يفضي إلى استمرار جزء من الأزمة بزيادة معدلات الإنجاب دون وعي.

15