الحجب عقوبة جاهزة لتجاوز الحريات الإعلامية في مصر

القاهرة - بعثت الحكومة المصرية برسالة صارمة إلى المواقع الصحفية المعارضة، على وقع التحديات الأمنية المرتبطة بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تؤكد أنها لا تمانع في تبني وجهات نظر مختلفة معها، شريطة عدم تجاوز الحريات الإعلامية بشكل يلحق ضررا بالأمن القومي، أو يعمل لحساب جهات تشكك في ثوابت الدولة.
واتخذ المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر قرارا حاسما، الأحد، بإحالة مسؤولي موقع “مدى مصر” إلى النيابة العامة وحجب الموقع ورابطه الإلكتروني لمدة ستة أشهر لممارسته النشاط الإعلامي دون الحصول على ترخيص قانوني، ونشره أخبارا كاذبة دون التحري من مصادرها بشكل يلحق ضررا بالأمن القومي.
وجاء القرار عقب جلسة استماع لرئيسة تحرير موقع “مدى مصر” لينا عطاالله على خلفية اتهام الموقع بنشر تقرير تناول سيناريوهات تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، في سياق متابعة تبعات العدوان الإسرائيلي على غزة.
وقال مجلس تنظيم الإعلام إنه تلقى شكاوى عدة اتهمت الموقع بنشر تقارير تحريضية للإضرار بالأمن القومي، ومن مصادر وهمية مجهولة حول سماح مصر بنزوح فلسطينيين إلى سيناء، ما يتنافى مع القوانين ومواثيق الشرف الإعلامية.
ونشر “مدى مصر” تقريرا تضمن تصريحات من تسعة مصادر مصرية وغير مصرية (مجهولة) تحدثت عن مرونة من جانب القاهرة لقبول التهجير إذا تعقدت الحرب، وأصدر مجلس تنظيم الإعلام بيانا حادا منتصف أكتوبر الجاري ضد الموقع، ما دفع المسؤولين فيه إلى حذف التقرير والاعتذار عنه.
ولدى القاهرة موقف واضح من مسألة التهجير إلى سيناء، وترى أن ذلك تصفية للقضية الفلسطينية، ويحمل تهديدا للأمن القومي للبلاد، وهو ما تصدى له الرئيس عبدالفتاح السيسي ولوّح بأن هذا الإجراء قد يدفع مصر للدخول في مواجهة مع إسرائيل، وقال خلال اتصال هاتفي مع الرئيس الأميركي جون بايدن، مساء الأحد، “مصر لم ولن تقبل تهجير الفلسطينيين إلى سيناء”.
ويشير قرار مجلس الإعلام إلى أن القاهرة لا تمانع في قيام وسائل الإعلام بالعمل دون ترخيص ولو كان ذلك مخالفا للقانون، لكن العبرة في تركها العمل بلا مضايقات ألاّ تتجاوز الخطوط الحمراء في تهديد الأمن القومي سهوا أو عمدا، أو بالعمل لحساب جهات وتيارات معادية، أو نشر شائعات لها تبعات سياسية خطرة.
وأعلن “مدى مصر” عبر صفحته الرسمية على موقع فيسبوك التزامه بمواثيق الشرف الإعلامية المتعارف عليها عالميا، وبمعايير المهنية الصارمة التي يتبعها وفريق عمله في ظل الإيمان الدائم بحق المواطنين في المعرفة والحصول على المعلومات.
وأكد مسؤولو الموقع أنهم يسعون منذ عام 2018 للحصول على ترخيص بموجب القانون الجديد الذي ينظم الصحافة والإعلام في البلاد، لكنهم لا يتلقون ردودا على استفساراتهم المتكررة التي تقدموا بها.
ويرى حقوقيون أن اللجوء إلى حجب المواقع الإخبارية المعارضة بدعوى أنها غير مرخصة وتمارس المهنة بلا غطاء شرعي يبدو مقصودا من جهات فاعلة في المشهد الإعلامي لتكون لديهم ذريعة للغلق والحجب إذا تم تجاوز الحدود المرسومة أمنيا وسياسيا، وهي ثغرة يستفيد منها مجلس تنظيم الإعلام بلا تفسير لعدم الترخيص.
وقال يحيى قلاش نقيب الصحافيين المصريين سابقا إن “مدى مصر” أخطأ مهنيا في كونه لم يتحر الدقة عن قضية حساسة لها أبعاد حيوية، لكن عقوبة الحجب لعدم الترخيص تهمة يتم استخدامها وقت الحاجة ضد مواقع تغرد خارج السرب، والقرار الصادر عن مجلس تنظيم الإعلام يحمل رسالة شديدة اللهجة إلى المنابر التي تجازف بعدم المهنية وقت التحديات الخطرة.
"مدى مصر" نشر تقريرا تضمن تصريحات من تسعة مصادر مصرية وغير مصرية (مجهولة) تحدثت عن مرونة من جانب القاهرة لقبول التهجير إذا تعقدت الحرب
وأضاف لـ”العرب”، أن الحظ السيء لـ”مدى مصر” أنه أخطأ عندما نشر تقريرا يخالف الموقف المصري الرسمي من القضية الفلسطينية، بالتزامن مع تبني الكثير من وسائل الإعلام الغربية نفس الرواية التي تتحدث عن ضرورة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، ووضع نفسه في مأزق، لافتا إلى أن العقوبة يجب أن تكون مناسبة لحجم الخطأ، ولا يتحول الحجب إلى استهداف بناء على مواقف مهنية قديمة.
ويعتقد خبراء في مجال الإعلام أن الحكومة المصرية تتحمل قدرا من مسؤولية انحراف بعض المواقع المستقلة عن مسارها بنشر معلومات مغلوطة، لأنها تراخت عن إقرار تشريع يبيح حرية تداول المعلومات، ما ساهم في زيادة انتشار الشائعات وضاعف من نشر معلومات مزيفة بشكل ألحق الضرر بالنظام العام، لأن هناك قوى معارضة للسلطة تستثمر ذلك في إثارة الرأي العام بشكل متعمد.
ودعّم يحيى قلاش هذا الرأي، مؤكدا أن غياب المعلومات الرسمية أمام الإعلام وقت التحديات عملية شديدة الخطورة، لها عواقب تتجاوز مخاطر الشائعات على الأمن والاستقرار، ومطلوب من المنابر الإعلامية في مثل هذه الظروف أن تتعامل باحترافية ولا تضع نفسها في موقع “عبء إثبات المعلومة المجهولة”، ويمكن أن الحرية الإعلامية ليست محصنة ولا مفتوحة والعبرة في تكريس المهنية.
القاهرة لديها موقف واضح من مسألة التهجير إلى سيناء، وترى أن ذلك تصفية للقضية الفلسطينية، ويحمل تهديدا للأمن القومي للبلاد
وهناك أصوات ترى أن غياب قانون حرية تداول المعلومات لا يعطي الحق لأيّ منبر نشر تقارير صحفية تمس قضية حساسة بناء على مصادر مجهولة دون التحقق من صحة المعلومات لمجرد الحصول على سبق صحفي زائف على حساب المهنة ومواثيق الشرف الإعلامية، لأن كبار المسؤولين في الدولة حسموا القضية برمتها، ولم يعد هناك مجال للاجتهاد الصحفي فيها.
وتقول هذه الأصوات إن الحكومة المصرية أو أيّ جهة رسمية في بلد آخر ليس مطلوبا منها مجاراة الإعلام في تسريب معلومات تلحق الضرر بالأمن القومي وقت التحديات، سواء أكان هناك قانون لحرية تداول المعلومات أم لا، ولا يجب أن يكون مقابل شح المعلومات نشر تكهنات تسعى توظفها إسرائيل لتحقيق أهدافها.
وتتجنب نقابة الصحافيين الصدام مع النظام بشأن هذا التوجه، ولم تتدخل في قرار حجب “مدى مصر”، مع أن النقيب خالد البلشي اعتاد التحرك في وقائع شبيهة ويتواصل مع الأجهزة المعنية لحل الأزمة والمطالبة برفع الحجب عن مواقع متعددة، وهذه المرة التزم الصمت لارتباط المشكلة بتبعات أمنية وسياسية، كما أن قرار الغلق يتّسق مع روح ونصوص القانون.
وتشير شواهد عدة في مصر إلى أن الحكومة تخلت نسبيا عن تحفظاتها القديمة ولم تعد تمانع من وجود مساحة من الحريات للعمل الإعلامي، شريطة أن يكون ذلك وفق سياسة تحريرية لا تقدم خدمة مجانية لجهات لها خصومة مع الدولة.
ولا تزال هناك العديد من المواقع الصحفية المستقلة التي تتبنى سياسية تحريرية معارضة للحكومة في مصر، وتعمل بلا مضايقات كونها تنتقد وتختلف مع السلطة وفق قواعد مهنية، على الرغم من أنها تقدم ألوانا صحفية مختلفة وتعتمد خطا جريئا، مثل “المنصة”، و”بوابة الحرية”، و”حرف 24″، و”الموقع”، و”مصر الآن”، وأغلبها تقريبا لم يحصل على تراخيص للعمل بشكل شرعي.
يؤكد القرار الصادر ضد “مدى مصر” أن النظام المصري سيظل محافظا على خط أحمر في الممارسات الإعلامية ولن يتخلّى عنه، وأن تكون السياسة التحريرية لأيّ منبر بعيدة عن تهديد الأمن أو خدمة تيارات وجهات معادية للدولة، أو تعمد نشر شائعات عن قضايا حساسة، والسير في هذا الاتجاه يعني أن الحجب واقع لا مفرّ منه.