الرئيس التونسي يفتح ملف التجاوزات في قطاع البنوك

تخوض السلطات التونسية منذ إجراءات الرئيس قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو 2021 حربا مفتوحة ضد ممارسات الفساد الإداري والمالي، حيث سلطت الضوء على عدّة ملفات هامّة من أبرزها القطاع البنكي الحساس، وهو ما يكرّس توجهات الرئيس نحو مواجهة الفاسدين في مختلف القطاعات وداخل الإدارة.
تونس - كشف الرئيس التونسي قيس سعيد، خلال زيارة أدّاها إلى مقر البنك الوطني الفلاحي (حكومي) بالعاصمة، عن جملة من التجاوزات في المعاملات المالية لهذه المؤسسة، وهو ما يبيّن حسب مراقبين وجود ممارسات فساد مالي وتواصل إهدار المال العام في البلاد، داعيا إلى محاسبة المتورطين في وقت تخوض فيه السلطات حربا ضد الفساد.
ويقول متابعون إن الرئيس قيس سعيد يولي أهمية كبيرة لجهود مكافحة الفساد، حيث سبق أن شبه الحرب التي يخوضها في هذا الشأن بـ”حرب تحرير وطنية”، فضلا عن دعواته المتكررة إلى ملاحقة “اللوبيات” داخل الدولة.
وتشنّ السلطات التونسية منذ فترة، حربا مفتوحة ضد الفساد خاصة في القطاع البنكي الذي يعتبر أكثر القطاعات حساسية في البلاد، فيما يعتبر الرئيس قيس سعيد أن إصلاح الأوضاع في البلاد لا يمر إلا بمواجهة الفاسدين في مختلف القطاعات وداخل الإدارة.
وقال قيس سعيد، وفق فيديو يوثق الزيارة نشرته رئاسة الجمهورية، إنه “أعدّ ملفا يتعلق بجملة من التجاوزات في البنك الفلاحي، واستعرض عددا من الأمثلة على ذلك، معتبرا أن هذا الملف يؤكد وجود خرق للقانون وإهدار للمال العام”.
وأكد سعيّد أن لجنة التحاليل المالية ستقوم بعملها في ما يخص البنك الفلاحي وسيتحمل الجميع مسؤولياتهم، مذكرا بأن الهدف من إحداث هذا البنك هو دعم قطاع الفلاحة وصغار الفلاحين، غير أن البنك أقرض أموالا طائلة لعدد من الأشخاص والشركات الوهمية دون أي ضمانات.
واستدل الرئيس سعيد على ذلك بملف قرض بحوالي 24 مليون دينار (7.61 مليون دولار)، أسند لشخص دون أي ضمانات، مؤكدا أن هذا الشخص تحصل على هذا القرض خلال هذه السنة على الرغم من عدم وجود معاملات له لدى البنك. وقال إن البنك يسند قروضا جديدة للأشخاص ذاتهم لخلاص فائدة الدين وليس من أجل خلاص أصل الدين، في حين أن صغار المزارعين يقترضون بشروط مجحفة.
والجمعة، قال الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بتونس محمّد زيتونة إنّ “النيابة العمومية أذنت بفتح تحقيق وإجراء التساخير الفنيّة اللازمة، بخصوص خروقات في إسناد قروض لذوات معنويّة وطبيعية من طرف البنك الوطني الفلاحي”.
وأكّد زيتونة، في تصريح لوكالة الأنباء التونسية، أنّه “تمّ تعهيد الوحدة الوطنية للبحث في الجرائم المالية المتشعّبة بإدارة الشرطة العدلية بالموضوع”.
وأكد الرئيس التونسي أن هذا الأمر لا يمكن أن يستمر على هذا الحال، قائلا “كيف يمكن إعطاء قروض بالمليارات في حين أن صغار المزارعين يشتكون من الوضع، خاصة مع انحباس الأمطار هذا العام”، مضيفا “من المفترض أن تكون مؤسسة البنك الفلاحي في خدمة صغار الفلاحين وبفوائد غير مشطة”.
وتابع قائلا “نحن مؤتمنون على كل مليم من أموال الشعب التونسي، ونحن هنا في حرب ضد الفساد وسنخوضها مع كل المواطنين الشرفاء الذين يجب أن يقفوا صفا واحدا لتطهير الإدارة وتطهير البلاد”.
وبين سعيّد أن تونس قادرة على تجاوز الصعوبات بقدراتها الذاتية وقرارها المستقل “لكن يجب تطهير البلاد”، ملاحظا أن العديد من الأطراف تضع العقبات أمام المستثمرين باسم القانون، في حين أن القانون يجب ألا يكون عقبة أمام تحقيق الثروة.

وقالت مسؤولة بالبنك، في حوارها مع الرئيس سعيد، إن البنك الوطني الفلاحي ركيزة من ركائز الاقتصاد التونسي، مؤكدة الحاجة إلى دعم الرئيس لجهودهم لإصلاح المؤسسة وحمايتهم من “الضغوطات” بمختلف أشكالها.
وتعالت في الفترة الأخيرة أصوات تطالب الرئيس سعيد بفتح ملف القروض التي أسندتها بنوك عمومية إلى عدد من الأشخاص دون أي ضمانات، رغم أن بعضها يواجه صعوبات مالية.
وسبق أن كشف سعيّد أنه يتلقى يوميا العشرات من الملفات المتعلقة بالفساد، وشدد في تصريح سابق على أن “الدولة لا تستقيم إلا بوضع حد للشبكات التي تعربد داخل أجهزتها”.
اقرأ أيضا:
وأفاد أستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي بأن “ما حدث هو تأكيد آخر على أن البنك المركزي التونسي ولجنة التحاليل المالية لم يقوما بدورهما في الرقابة اللازمة، حيث إن مهمة مراقبة التضخم المالي هي من مشمولات البنك المركزي”.
وأضاف لـ”العرب”، “هناك ملفات فساد مالي، وهذه مسؤولية البنك المركزي، وعندما نتحدث عن قرض دون ضمان، يعني أنه أمر سيؤدي إلى انهيار البنوك وبالتالي وجود عجوزات تمولها الدولة”.
واستطرد الشكندالي “هناك تقصير كبير في مراقبة الأموال، وإذا ما وجدت هذه الممارسات في البنك الفلاحي، فلا أستبعد أن يكون نفس التجاوز موجودا في بقية البنوك”.
وفي أغسطس الماضي، قررت النيابة العامة بالقطب القضائي المالي في تونس منع سفر 12 موظفا حاليا وسابقا في بنك عمومي، وفق ما ذكرت إذاعة محلية.
وجاء ذلك في إطار فتح تحقيق متعلق بإسناد البنك لقروض يشتبه بأنها تمت دون احترام التراتيب القانونية المعمول بها من حيث الضمان ونسب الفائدة.
وكانت النيابة العامة بالقطب القضائي المالي قررت الاحتفاظ بأحمد رجيبة المدير العام الأسبق لبنك الإسكان “بنك عمومي”، وذلك في قضية تتعلق باتهامه بالتصرف السيء في ملفات قروض كبيرة منحت لرجال أعمال دون ضمانات، وفق المعطيات المتداولة في وسائل إعلام محلية.
وتعول الدولة على القطاع البنكي للحصول على تمويلات بهدف مواجهة العجز المسجل في الميزانية بعد الفشل في الحصول على تمويل من صندوق النقد الدولي بنحو 1.9 مليار دولار لسد العجز، وهو ما يرفع المخاطر التي تواجه تلك البنوك.
وقال الخبير المالي والمصرفي محمد صالح الجنادي “من المفترض أن يكون هناك جرد للأموال المرصودة للأشخاص، وهذا شكل من الفساد المستشري منذ عقود عبر البنك المركزي الذي يشرف على السياسات المالية”.
وأكد في تصريح لـ”العرب”، “كان يجب أن ترصد تلك الأموال كقروض لسوق التجار والمزارعين الذين لهم احتياجات، وهو ما أثر على الاقتصاد وقوة المنافسة وأدى إلى تراجع المنتوج الزراعي”.
وأردف الخبير المالي أن “جل المعاملات المالية فيها نوع من الفساد، وهذا احتكار لأموال الدولة والشعب، وهو فساد شاركت فيه وزارة المالية في السنوات الماضية”، قائلا “أدعو الرئيس سعيد إلى تقسيم دور وزارة المالية وافتكاك السيادة منها، نظرا لكونها تخفي لوبيات وتتواطأ بالصمت عن بعض الممارسات والإخلالات”.
وتابع “الرئيس قام بخطوة شجاعة وجريئة، وعليه أن يعيد النظر في هيكلة وزارة المالية”.
وسبق أن دعت منظمات معنية بالشفافية إلى مواجهة الاقتصاد الريعي الذي تتهم البنوك بالعمل على تكريسه لأنه يحقق لها أرباحا كبيرة، حيث تتهم البنوك بتشكيل لوبيات وتكتلات لاقتسام السوق ما أسفر عن تراجع القطاع البنكي عن تمويل الاستثمارات والمشاريع الصغرى في البلاد.