الاحتواء الأسري وقت إخفاق الأبناء يجنبهم الانتقام من النفس

مصريات يقدمن على الانتحار بعد رسوبهن في الثانوية العامة.
السبت 2023/08/05
الوصول إلى المكانة التي ترضي طموحات العائلة صعب على بعض الطلاب

يؤكد خبراء علم النفس على أهمية دور الأسرة في احتضان الأبناء عند إخفاقهم في الامتحانات وخصوصا امتحان الثانوية العامة، مشيرين إلى أن التحفيز لوحده يمكن أن يكون عاملا في إلحاق الأذى بنفسية الممتحن فما بالك إذا كان مصحوبا بعنف لفظي أو جسدي. ويلفت الخبراء إلى أن الطالب يمكن أن يشعر في حال الإخفاق أنه يتحمل المسؤولية في عدم إسعاد أفراد العائلة وتحقيق هدفهم في النجاح ما يجعله يقدم على الانتحار.

القاهرة - بين محاولات الانتحار بتناول مواد سامة هربا من عتاب الأسرة وبين تنفيذ عملية الخلاص من النفس بسبب المجموع الضعيف في الامتحانات، تنوعت المآسي الأسرية بمصر عقب إعلان نتيجة الثانوية العامة (البكالوريا)، ولم يستطع بعض الطلاب أن يتحكموا في إصابتهم باليأس وغياب الشجاعة ومواجهة الآباء.

وكانت آخر واقعة لفتاة تخلصت من نفسها بالانتحار في محافظة القليوبية، شمال القاهرة، قبل أن تكتب رسالة أخيرة لتبرر فعلتها بأنها لم تكن لتتحمل نظرات والديها لها بعد علمها أنها حصلت على مجموع ضعيف في البكالوريا، مع أن أبويها كانا يستشرفان لها مستقبلا باهرا، لذلك قررت الانتحار، ما أثار موجة غضب واستياء أسري لغياب الاحتواء العائلي للأبناء وقت المحن.

إذا تعاملت العائلة مع الأبناء وقت المحن والمطبات الحياتية كما يتعامل الصديق مع نظيره تقضي على جميع الآثار السلبية التي يمكن أن تتفاقم بين الطرفين

وتم إنقاذ ثلاث طالبات بعد تناولهن مادة سامة بغرض الانتحار لحصولهن على درجات متدنية في البكالوريا، فيما أقدمت طالبة أخرى على الخلاص من نفسها بالقفز من مكان مرتفع، وجرى إنقاذها سريعا قبل القفز، رغم أن عائلتها كانت دائما تحفزها على التفوق الدراسي، حتى شعرت بأنها تتحمل عبء إسعاد أبويها وشعرت أنها لم تكن على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقها من قبل الأسرة.

وفسّر استشاري الصحة النفسية بالقاهرة جمال فرويز تكرار وقائع الأذى النفسي من جانب الأبناء خلال وقت الامتحانات بدور الأسرة أولا قبل أي شيء آخر، فقد لا يكون الأبوان يتعاملان بعنف لفظي أو جسدي ويكتفيان بالتحفيز دائما، لكن هذا في حد ذاته يُحمّل الابن أعباء نفسية قد لا يستطع التأقلم معها، وهنا يلجأ لإلحاق الأذى بنفسه.

وقال لـ”العرب” إن أيّ حالة انتحار لطفل أو شاب غالبا ما تكون بسبب ضغوطات عائلية ولو كانت إيجابية، لأن الأبوين أحيانا يتعاملان مع الابن باعتباره المسؤول عن تحقيق طموحات الأسرة وأحلامها، ما يجعل البعض يفكرون في الفشل قبل النجاح ويقتنعون أنهم مهما فعلوا لن ينالوا رضا الآباء أو مواجهتهم بحقيقة ضعفهم دراسيا.

ويعاني آباء كثيرون من مشكلة معقدة ترتبط بعدم الاقتناع بوجود فوارق وتفاوت في المستويات التعليمية بين الأبناء مقارنة بزملائهم أو أقاربهم، ولكل منهم قدرات مهما حاول تطويرها فلن يصل إلى المكانة التي ترضي طموحات العائلة، وأمام ضعف المستوى والخوف من المستقبل يتم اللجوء للترهيب أو مضاعفة التحفيز.

وفي الحالتين، يشعر كل ابن بأنه يعيش ضغوطا نفسية رغبة منه في تحقيق طموحات والديه وعدم التعرض لأيّ عتاب ولو كان هادئا، وهنا يبدأ التفكير في الخلاص من هذا العبء بإلحاق الأذى بنفسه، لأنه عاجز عن الوفاء بما عليه من مسؤولية تجاه ذاته وأسرته، وقد يسبق ذلك اكتئاب وميل إلى الانطواء والصمت لصعوبة التعبير عن ضعف قدراته.

قلق وخوف مبالغ فيهما
قلق وخوف مبالغ فيهما

وهناك أمهات وآباء كانوا أكثر حكمة وعقلانية أمام شعورهم بإمكانية خيبة الأمل في عدم تحصيل أبنائهم درجات مرتفعة، وذهب بعضهم إلى كتابة منشورات موجهة لأبنائهم على شبكات التواصل قبيل إعلان نتيجة البكالوريا لطمأنتهم على الرضا بأيّ مجموع، خشية أن يكون هناك رد فعل انتقامي من أبنائهم تجاه أنفسهم، وهي مواقف تقابل باستحسان من كثيرين لأنهم تعاملوا بوعي ومنطق واحتواء مع أولادهم.

وأوضحت رضوى هشام، وهي أم لطالبة في الثانوية العامة، أنها شعرت بقلق وخوف مبالغ فيهما من جانب ابنتها قبيل إعلان النتيجة مؤخرا، وشعرت أنها لن تمانع من الانتقام من نفسها حال فشلت في الحصول على مجموع مرتفع، وجلست معها وطمأنتها بأنها موافقة على أي شيء، ولو جاءت النتيجة بالرسوب، مؤكدة أنه أمام سيطرة فكرة الانتحار على عقول مراهقين ومراهقات لا بديل عن احتواء الأسر للأبناء.

وأشارت لـ “العرب” إلى أن ابنتها بالفعل حصلت على مجموع منخفض وكانت في منتهى الإحباط واليأس، لكن حديثها معها جعلها مطمئنة وآمنة، وقد تكون أنقذتها من أن تتخلص من نفسها، فهي مضطربة طوال الوقت، ولديها طموحات معينة في الحياة، ودائما ما تشعر أن الأسرة تحملت الكثير من أجلها، لذلك كان حتميا أن يتم التعامل مع إخفاقها الدراسي بعاطفة ولا بد أن يكون تحرك الأسرة استباقيا وليس كردة فعل.

وإذا تعاملت العائلة مع الأبناء وقت المحن والمطبات الحياتية كما يتعامل الصديق مع نظيره تقضي على جميع الآثار السلبية التي يمكن أن تتفاقم بين الطرفين بسبب كثرة المطالبة بتحقيق النجاح أو عند الشعور الأسري بأن الابن أخفق في أيّ شيء، فالمهم أن يقتنع كل أب بأن الابن إذا لم يجد عاطفة الاحتواء من جانب أهله وقت الأزمة فقد يتعرض لانتكاسة نفسية تدفعه لليأس من الحياة عموما.

جمال فرويز: أي حالة انتحار لطفل أو شاب غالبا ما تكون بسبب ضغوطات عائلية
جمال فرويز: أي حالة انتحار لطفل أو شاب غالبا ما تكون بسبب ضغوطات عائلية

وتظل المعضلة في الآباء الذين إذا فشلوا في تحقيق طموحاتهم الشخصية، فهم يمارسون ضغوطا شديدة على الأبناء لتعويض هذا الفشل، وإن كان ذلك خارج قدرات الصغار، فإذا نجح الطفل تزداد مطامع الآباء في المزيد، ما يجعل الأبناء عاجزين عن تحقيق هذه المطامع.

ويتمسك استشاري الطب النفسي جمال فرويز بأن كثرة الضغوط الأسرية على الأبناء بدافع الحفاظ على مستقبلهم تشعرهم بالإحباط وقد تجعلهم يفكرون في أنهم فاشلون من وجهة نظر أسرهم، ما يولّد لديهم الإحساس بأنهم بلا قيمة، وحياتهم ليس لها معنى، طالما  لم يحققوا أهداف أسرهم، وسوف يكونون منبوذين مدى الحياة، وهنا يصبح التفاهم بين الأسرة والأبناء شبه منعدم والنتيجة مأساوية.

ويعتقد متخصصون في العلاقات الأسرية أن أيّ تربية عائلية قائمة على الترهيب أو التحفيز المبالغ فيه تجعل بعض الأبناء يشعرون أنهم مستعدون لمواجهة الموت أفضل من مواجهة آبائهم، والطفل في مرحلة المراهقة يبدو عصبيا بالفطرة ويراوده إحساس بالتوتر خوفا على مستقبله الذي يحدده الآباء، ومع الوقت تزداد الضغوط بمقارنة مستوى الابن بأبناء الجيران والأصدقاء المتفوقين كنوع من الوجاهة الاجتماعية، ويشعر بأنه فاشل وقد يفكر في الانتحار.

وغالبا ما يكون تحفيز الأبناء بدافع أبوي لتأمين مستقبلهم، لكن ذلك لا يتم بحسابات دقيقة ودون مراعاة للأثر النفسي على المراهقين والشباب، ويتحول التحفيز مع الوقت إلى أداة ضغط تقود إلى اليأس والاقتناع بالفشل ولو كان الابن متفوقا، لكنه في النهاية لن يصل إلى مرحلة الرضاء التام لوالديه، ما يدفعه لتوجيه الغضب والعنف تجاه نفسه عندما يشعر أنه يتعرض إلى لوم وعقاب ومقاطعة أو يواجه بخطاب محمّل بالتوبيخ.

وتظل المشكلة الأبرز أن الكثير من الأسر لا تزال تتحكم في اختيار نوعية التعليم لأولادها دون مراعاة لرغباتهم الشخصية، فيضطر الابن لإرهاق نفسه والضغط عليها لتحقيق هدف أسرته مع أنه لا تستهويه اختيارات أبويه، وهذا عبء نفسي مضاعف بأن يجتهد ويتعب ويتميز دراسيا لمجرد إرضاء والديه وليس تحقيق حلمه، وعندما يفشل يشعر بخيبة أمل من الطرفين تجاه أسرته ونفسه بشكل قد يدفعه للهروب من الجميع.

15