تصدير نماذج فاشـلة من العلاقات الزوجية يدفع الشباب إلى العزوف عن الارتباط

يرجع خبراء علم الاجتماع ومستشارو الأسرة عزوف الشباب عن الزواج في مصر إلى الصورة المشوشة التي يحملونها في أذهانهم عن مفهوم الأسرة ما أدى إلى سقوط قدسيتها لديهم، إضافة إلى تبنيهم فكرة الاستقلالية وعدم الرغبة في تحمل المسؤولية وإنجاب الأطفال. وأشار الخبراء إلى أن العلاقات الأسرية عموما أصبحت تفتقد الأجواء العاطفية نتيجة كثرة الخلافات واستسهال الطلاق، ما صدّر نماذج فاشلة للشباب وجعلهم يهابون فكرة الزواج.
القاهرة - كشفت الأرقام المعلنة من نقابة المأذونين في مصر مؤخرا عن تراجع كبير في معدلات الزواج بين الشباب والفتيات لأسباب عدة، من بينها قسوة الظروف الاقتصادية، فيما أظهرت استطلاعات للرأي أجرتها جهات غير رسمية أن الصورة الذهنية المشوهة عن الزواج سبب رئيسي في سقوط قيمة الأسرة من أولويات الشباب.
وقال نقيب المأذونين إسلام عامر إن نسب الزواج في مصر انخفضت في العام الحالي مقارنة بالعام السابق بنسبة وصلت إلى 40 في المئة، مبررا ذلك بالأسباب الاقتصادية التي عمقت الصعوبات التي يواجهها الشباب في مساعيهم لتأسيس أسرة، ومغالاة الكثير من العائلات في فرض شروط يصعب تنفيذها في وقت تزداد فيه الظروف المعيشية قسوة.
وذهبت بعض الدراسات إلى أن هناك معضلة أخرى مرتبطة بشغف الكثير من الشباب بفكرة الاستقلالية وعدم الرغبة في تحمل المسؤولية وتكوين أسرة وإنجاب أطفال، وعدم الثقة في اختيار الشريك الصحيح، حتى أصبحت الصورة الذهنية عن الزواج عموما مشوهة في نظر شريحة معتبرة من الشبان والفتيات.
وأعلنت مؤسسة “إجابات” المعنية بإجراء استطلاعات للرأي في مصر، وهي مؤسسة غير رسمية، أن الظروف الاقتصادية تحتل المرتبة الأولى في أسباب العزوف عن الزواج، لكن ثمة إشكالية أخرى حديثة تتعلق ببحث الشاب أو الفتاة عن استمرار الاستقلالية وعدم الرغبة في تأسيس مؤسسة زواج وتكوين أسرة أمام الضغوط المجتمعية العديدة، حتى أصبحت أعداد الراغبين في تأسيس أسرة مستقرةٍ محدودةً.
ووجدت المؤسسة أن الشبان لديهم شعور بأن الفتيات يرغبن في استمرار استقلاليتهن ولا يبحثن عن تحمل المسؤولية، وهي نفس نظرة الطرف الآخر، فالفتيات ينظرن إلى الشبان على أنهم غير مهيئين لتحمل المسؤولية، أي أن المشكلة موجودة لدى الطرفين.
وبرر الشاب محمود مهدي، البالغ من العمر 32 عاما، عدم تفكيره في الزواج بأنه لم يعد شغوفا بفكرة تكوين أسرة، وهذا له علاقة وثيقة بالظروف الاقتصادية المحيطة، معقبا “كل شيء أصبح بمقابل مادي يتجاوز قدرات الشباب.. من توفير المنزل وتكاليف ما قبل الارتباط الرسمي إلى رعاية الأبناء وتعليمهم والإنفاق عليهم، ودون ذلك تفشل العلاقة".
وقال لـ"العرب" إنه لم يعد يفكر في تكوين أسرة، حاليا أو مستقبلا، فكل شيء يقود إلى انهيار العلاقة، وليس هناك مؤشر على ثبات السعادة الزوجية، والكثير من الفتيات أصبحن مرفّهات وينظرن إلى الحياة الزوجية بمنظار يقوم على الاستمتاع والتنزه وعدم تحمل المسؤولية، والعقدة الأكبر عند الشباب تكمن في ارتفاع معدلات الطلاق وعدم وجود نماذج مثالية يمكن الاقتداء بها.
وعلى الرغم من أن مبررات صديقه إيهاب محمود، البالغ من العمر 33 عاما ولم يتزوج، جاءت مختلفة نسبيا غير أنها تصب في بوتقة واحدة ضمنيا، فهو لا يزال يتمسك بالزواج من فتاة مثقفة ولها مستقبل وظيفي تشاركه المسؤولية وتساعد على توفير متطلبات الأسرة.
وبرر موقفه لـ”العرب” بأنه كلما ادخر جزءا من المال تمهيدا للارتباط وجد الأسعار زادت بشكل جنوني، لذلك قرر ألا يتزوج إلا من فتاة عاملة ليكون هناك تعاون بين الطرفين على مجابهة ظروف الحياة، أما أن يتحمل الشاب وحده مسؤولية الأسرة فهذا غير متاح.
ويعتقد متخصصون في العلاقات الأسرية أن عزوف الشباب عن الزواج له أبعاد نفسية أكثر منها اقتصادية واجتماعية، فالعلاقات الأسرية في المجتمع عموما أصبحت تفتقد الأجواء العاطفية نتيجة كثرة الخلافات واستسهال الطلاق، ما صدّر إلى الشباب نماذج فاشلة وجعلهم يهابون فكرة الزواج، وسقطت قدسية تكوين أسرة من أولوياتهم.
وأوضح محمد هاني، الباحث المخصص في الشؤون الأسرية وتقويم السلوك بالقاهرة، أن “الكثير من الشباب والفتيات في مصر لديهم العديد من التجارب الفاشلة في محيط العائلة بين المتزوجين، ما يُوجد حواجز نفسية بينهم وبين الزواج".
وأشار في تصريح لـ”العرب” إلى أن “هناك أزمة تتعلق بتصدير مواقع التواصل الاجتماعي نماذج زوجية سيئة، حتى أصبحت النقاشات المتكررة حول الزواج تدور في فلك التجارب المريرة، ولا بديل عن تصدير نماذج إيجابية عن العلاقات الأسرية، مع تبني حملات مكثفة لتوعية الأسر نفسها بعدم المغالاة في شروط الزواج".
ولا تزال الكثير من الأسر تتشدد في اشتراطات الزواج وتفرض على الشاب المتقدم للفتاة قائمة طويلة من المطالب التي يصعب الالتزام بها في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة، مثل المهر المرتفع والسكن الفاخر والمستلزمات المنزلية المبالغ فيها والشكل المثالي لحفل الزفاف والوظيفة القارة والراتب المعقول، ما تسبب في عزوف أعداد كبيرة من الشباب عن الزواج.
وتنظر نسبة من أرباب الأسر إلى المغالاة في المهور ومتطلبات الزواج على أنها تعكس قيمة الفتاة عند أسرتها، وهناك عائلات تعتقد خطأً أنها عندما تتساهل في شروط الزواج يشعر الشاب بعدم وجود قيمة للفتاة عند أسرتها لذلك تزوجها بثمن بخس.
◙ ثمة إشكالية أخرى حديثة تتعلق ببحث الشاب أو الفتاة عن استمرار الاستقلالية وعدم الرغبة في بناء مؤسسة الزواج
وتكمن المفارقة في أن هناك مصريات لديهن استعداد للزواج دون تكاليف مبالغ فيها لإدراكهن صعوبة الأوضاع الاقتصادية، لكن المعضلة في الآباء والأمهات حيث ينظرون إلى المستلزمات الزوجية على أنها أساس لبناء أسرة مستقرة خالية من المنغصات.
وأجرى المركز المصري لبحوث الرأي العام استطلاعا حول مدى تقبل الفتيات لإلغاء عادات وطقوس في الزواج، فأبدت 62 في المئة منهن الموافقة على الزواج دون خاتم زواج لمساعدة الشاب على تدبير شؤون المنزل، شريطة أن يكون هذا الشاب يستحق، ما يعكس أن المشكلة متشعبة بين فتيات يبحثن عن الاستقلالية وأخريات ينشدن الزواج بلا شروط مبالغ فيها وأرباب أسر يهتمون بالنواحي الشكلية.
وأكد محمد هاني لـ”العرب” أن “بعض أرباب الأسر مقتنعون بأن التساهل مع الشباب في متطلبات الزواج يعني التنازل، مع أنه مرتبط بتسهيل الإجراءات لا أكثر، فقد يقترض الشاب لإتمام الزواج ثم يبيع ذهب زوجته أو يضيق عليها المصروفات لاحقا، فتحدث مشكلات معقدة قد تنتهي بهما إلى الطلاق، وهذا لا تدركه العائلات”.
وتبنى الأزهر مبادرة للتيسير على الشباب في شروط الزواج مؤخرا، وقال إن الزواج الميسر يؤسس للسعادة في المستقبل، ويحد من العزوف عن تكوين أسرة، وذلك عكس الطلبات المجحفة التي تتسبب في زيادة معدلات العنوسة وسقوط الزواج من أولويات الشبان والفتيات ودفعهم نحو اختيار الاستمرار في العيش دون تحمل المسؤوليات.
وتفرض المستجدات الراهنة على بعض الأسر أن تكون مرنة مع الشاب المتقدم لخطبة الفتاة، لأن ذلك يضع على عاتقه عبء تحمل مسؤولية الحفاظ عليها والظهور أمام عائلتها بأنه يستحق هذا التنازل، وإذا لم يتحقق ذلك قد يكون تحرر الشبان والفتيات من القيود ثقافة عامة تمهد لعلاقات جنسية خارج إطار الزواج أو تعمق مشكلة الزواج السري بشكل تصعب السيطرة عليه مستقبلا.