مصر تعيد تأهيل المتسربين من المؤسسات التعليمية للحد من الأمية الأسرية

يمثل التسرب المدرسي شوكة في خصر الحكومة المصرية التي غيرت من سياستها في محاربة الظاهرة بأن تخلت عن فرض عقوبات على العائلات المشجعة على التسرب، وقدمت لها مساعدات من أجل إعانتها على إعادة أطفالها المتسربين. وتخشى الحكومة المصرية من أثر التسرب المدرسي على المجتمع باعتباره يكرس للجهل الأسري، لأن المتسربين يرثون نفس الأفكار والعادات التي تجاهد الدولة للقضاء عليها.
القاهرة - عاودت الحكومة المصرية التعامل مع التسرب التعليمي للأطفال والمراهقين بحكمة وتخلت عن التلويح بفرض عقوبات صارمة على الأسر التي تدفع أبناءها إلى ترك المؤسسة التعليمية من أجل العمل وجلب مكاسب مالية لعائلاتهم، وقررت إعادة تأهيلهم وتقديم مساعدات مالية تعين الأسر التي لديها طفل متسرب ليعود إلى المدرسة مرة أخرى، كأحد حلول مواجهة الأمية العائلية مستقبلا.
وقالت وزارة التضامن الاجتماعي، المعنية بتقديم المساعدات للبسطاء، السبت، إنها نجحت في إعادة 480 ألف طفل متسرب إلى المدارس عبر منح أسرهم إعانات مالية، من بين قرابة 700 ألف شخص تسربوا من التعليم السنوات الماضية، وهو رقم ضخم يمثل للحكومة أزمة حقيقية في ظل صعوبة السيطرة على عمالة الأطفال، واستمرار دفع بعضهم نحو الزواج المبكر وسط أزمة سكانية معقدة.
تُتهم الحكومة المصرية بأنها تتحمل الجزء الأكبر من أسباب انتشار ظاهرة التسرب التعليمي، لأنها رفعت تكاليف الدراسة على الأسر ولم يعد عدد كبير منها قادرا على تلبيتها، ما يجعلها لا تقبل على تعليم أبنائها مع تراجع دور المدارس والسماح بهيمنة الدروس الخصوصية على قطاع التعليم، وهو ما يتطلب إنفاقا ماديا كبيرا، إضافة إلى سوء الأوضاع المعيشية التي تدفع الأهالي إلى تشغيل صغارها.
ولا تزال البيئة التعليمية في مستويات الأسر البسيطة طاردة ويتنامى هذا الشعور بالتزامن مع موجات الغلاء المتصاعدة وتدهور مستوى المعيشة وارتفاع مصروفات المدارس وتنصل الحكومة من تطبيق مجانية التعليم التي أقرها الدستور، وكلها أسباب دفعت أرباب الكثير من الأسر إلى تعمد تسريب الأبناء وتشغيلهم، بعد أن سقط التعليم من قائمة الأولويات، مقابل البحث عن جلب موارد مالية.
المتسربون يرثون نفس الأفكار والعادات التي تجاهد الدولة للقضاء عليها مثل الزواج المبكر وختان الإناث والتطرف الفكري
تدرك الحكومة أن استمرار ظاهرة تسرب الأبناء من التعليم يكرس للجهل الأسري في المجتمع، لأن المتسربين يرثون نفس الأفكار والعادات التي تجاهد الدولة للقضاء عليها مثل الزواج المبكر وختان الإناث والتطرف الفكري، وهي ملامح أصلها يعود إلى انتشار الأمية من خلال وقوع هذه الفئة فريسة لتقاليد خاطئة، ما يضع العراقيل أمام أي حكومة لتأسيس أسر متحضرة.
يبلغ عدد المتسربين من التعليم في مصر سنويا، قرابة 150 ألف طفل، وهو رقم ضخم، لأن هؤلاء سيصبحون مسؤولين عن تكوين أسر في المستقبل القريب، ما يكرس الجهل والأمية الموجودة بأرقام ضخمة، ويتضاعف التسرب التعليمي بين الأجيال القادمة، طالما أن الأبوين لا يدركان قيمة التعلم ولا يعيرونه اهتماما، ويركزون فقط على جني الأموال من وراء تشغيل الصغار.
لجأت وزارة التضامن إلى صرف مساعدة خاصة بالطفل المنتسب لأسرة فقيرة دفعته إلى التسرب، بحد أقصى ثلاثة أبناء للعائلة الواحدة، وقالت إن لديها قاعدة بيانات كاملة حول الطلاب المتسربين وعائلاتهم وأماكنهم وظروفهم المعيشية وبيئاتهم الاجتماعية، على أن يتم صرف الإعانات بشكل منتظم لتحجيم دائرة الأمية بين الأبناء، وإنقاذ الصغار من دوامة العوز أمام الظروف الصعبة.
وسيتم منح المساعدات الشهرية للطفل أو المراهق، الذي ينتمي إلى أسرة بسيطة ويقل عمره عن 18 سنة، بشرط انتظام الابن في المدرسة، وبحد أقصى 350 جنيها شهريا (الدولار نحو 31 جنيها)، وستكون المساعدات طوال فترة العام الدراسي، وإذا عاود الطفل الانقطاع عن الدراسة سيتم وقف الإعانات ومعاودة التفاوض مع الأسرة لمعرفة سبب التسرب من جديد.
وأطلقت وزارة التضامن حملة توعوية موسعة بعنوان “احسبها صح”، تستهدف تغيير قناعات الأسر البسيطة ومحدودة الدخل تجاه التعليم وتوظيف الصغار بهدف إقناع الأهالي بأن المدرسة هي الأساس، ولا يجب دفع الأبناء في سن مبكرة إلى امتهان حرف لجلب أموال والتسرب من التعليم، وهي حملة يدعمها الإعلام وعدد من نجوم الفن والشخصيات العامة.

تؤكد تحركات الحكومة أنها عدّلت من طريقة تعاملها مع الأسر التي تحرم أولادها من التعليم وتدفعهم إلى التسرب تحت ضغوط معيشية صعبة، وقررت أن تتحمل فاتورة تعليم شريحة كبيرة من الأطفال الذين دفعتهم الظروف القاسية إلى التسرب لتقويض دائرة الأمية، لأن النتائج السلبية للجهل أصعب من تحمل الأعباء المالية.
وبلغت نسبة الأمية في الفئة العمرية 15 سنة فأكثر، بين الذكور، 19 في المئة، ووصلت النسبة في الإناث إلى 28 في المئة، وهي أرقام ضخمة (إحصاء رسمي لوزارة التعليم) إذا قورنت بأعداد الطلاب المنتسبين في المدارس الحكومية، حيث وصلت إلى 30 مليون طالب وطالبة، من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية العامة.
ويرى مؤيدو الدعم مقابل استكمال التعليم أن اشتراط تقديم إعانات للأسر بناء على جديتها في تعليم الأبناء يكرس توجيه المساعدات التعليمية في الطريق الصحيح، بعيدا عن استغلالها في أغراض اقتصادية، ما يحصّن الصغار من التأثر بالظروف المعيشية الصعبة التي نشأوا في محيطها، وانعكست بشكل سلبي على مستقبلهم التعليمي.
يظل الدافع الاقتصادي أبرز الأسباب التي تؤدي إلى تسرب الأطفال من المدارس عند الأسر التي تواجه ظروفا طارئة، مثل الفقر وفقدان العائل الوحيد، وهو ما تطرقت إليه الحكومة بعد دراسات ميدانية استعانت خلالها بفرق بحث اجتماعية التقت العديد من الأسر ورفعت تقاريرها إلى الجهات المختصة لوضع حلول جذرية بناء على وقائع حية قبل أن تتفاقم الأزمة بشكل يصعب علاجه.

تقود مخاطبة الشريحة التي تحرم أولادها من التعليم بدافع الفقر، بلغة المال، إلى التغيير من توجهاتها نسبيا، باعتبار العامل الاقتصادي المتحكم الأول في قرارات غالبية الأسر، بالتالي فأي خطاب توعوي يوجه إلى هذه العائلات لن يجدي نفعا، إذا لم تكن معه مساعدات مالية.
يرى متخصصون في العلاقات الأسرية أن كل طفل لم يستكمل تعليمه يمثل نواة لأسرة تفتقد الحد الأدنى من الوعي والفهم لطبيعة تكوين العائلة أو تربية الأبناء، والخطر الحقيقي أن تكون الأمية متوارثة بشكل ينسف محاولات القضاء على الظواهر الأسرية السلبية، لأن الأب الأمي لن تكون لديه حوافز لتعليم أبنائه أو الوعي الكافي لتربيتهم بشكل سليم وصحي.
قال أحمد مصيلحي، رئيس شبكة الدفاع عن الطفل المصري، إن اتساع دائرة الفقر في المجتمع استدعى تدخل الحكومة لتتحمل تعليم الصغار قبل تفاقم الأمية الأسرية، حاليا ومستقبلا، وما يشكله ذلك من ظواهر خطيرة مثل الزواج المبكر وختان الإناث وعدم احترام مكانة المرأة والعنف الأسري وعدم تعليم الإناث، وكلها وقائع مرتبطة بالجهل.
وأوضح لـ”العرب” أن الاستثمار في استمرار تعليم الصغار يحصن المجتمع من الانتكاسات الأسرية، وإعادة تأهيل المتسربين تمنحهم الثقة في أن لهم مكانة وقيمة عند الدولة والمجتمع، عكس تركهم يعانون من تبعات الفقر والانفصال وفقدان العائل، أو عقابهم بسبب ظروف عائلاتهم، والأهم أن الأمية لن تتسلل إليهم بشكل يجعلهم يؤمنون بالظواهر والعادات والتقاليد الجاهلية.
تظل أهم ميزة في عودة المتسربين من التعليم أن الحكومة لم تضع شروطا لأعمارهم، وسمحت بقبولهم في المدارس المجتمعية مهما كان السن متقدما على أن يتم تعويضهم بما فاتهم من دروس مضت، وتأهيلهم بما يتناسب مع قدراتهم التعليمية دون وضع عراقيل أمامهم بأن مستواهم ضعيف، ما شجع قرابة 480 ألف طفل على العودة.