المدينة الخرافية ومداخلها في لوحات الفنانة اللبنانية ديالا خضري

بيروت مدينة التناقضات، هكذا تصورها الفنانة التشكيلية ديالا خضري التي جاءت لوحات معرضها الأخير لتكشف معالم بيروتية ساحرة، تحن إلى زمن مضى لكنها خرافية تتراوح بين الخيال والواقع، بين ما يأمل البيروتيون أن تكون عليه مدينتهم وبين الحقيقة المؤلمة.
هناك اختلاف هائل ما بين مدينة خرافية وأخرى واقعية. ليس في هذا القول أي غرابة. وعالم الفن التشكيلي يعجّ باللوحات التي تصور مدائن في أبهى وأقسى واقعيتها، كما يفيض باللوحات التي هي تارة من نسج الخيال الذي أقام معالم مُرعبة أقرب إلى الكوابيس، وتارة أخرى وضع أمام المُتلقي معالم ساحرة فيها الكثير من الرقّة والمثالية حيث يظهر العديد منها مشاهد مُشبعة بالحنين إلى زمن مضى.
أما اليوم فنحن في صالة “أرت أون 56 ستريت” أمام لوحات تشكيلية للفنانة اللبنانية ديالا خضري تصور مدينة حقيقية وواقعية اسمها بيروت، ولكنها مدينة خرافية في آن واحد إما لناحية وجهات النظر التي قدمتها بها الفنانة من ناحية مداخلها/مخارجها غير التقليدية التي تحيلنا إلى القصص الخرافية لاسيما تلك التي تجعل من السراديب السفلية للمدينة مكانا لعيش كائنات غرائبية أو أخرى اختارت أن تعيش هناك بعيدا عن الظلم الذي يحدث فوق إسفلت المدينة.
ولسنا هنا بصدد ذكر ما لا يقل عن عشر قصص خرافية معروفة تجعل من المدينة طبقتين: واحدة فوق الأرض وأخرى تحتها حيث تجري أحداث القصص تماما كنتيجة للتلاقي ما بين الطبقتين/العالمين.
أطلقت الفنانة خضري على معرضها عنوان “الغراب والنظرة”، وهو ترجمة للعنوان الذي وضعته الفنانة بالفرنسية وهو “لو كوربو إي لو روغارد”، العنوان في البداية يحيلنا بشكل عام إلى الأديب الفرنسي جان دو لا فونتين الذي كتب أقاصيص خرافية تنطق فيها الحيوانات، وبشكل خاص إلى أحد عناوين قصصه وهي “الغراب والثعلب”.
خرافة دو لا فونتين فيها الحكمة والموعظة على لسان الغراب وتصرفاته، أما “مدينة” خضري فالحكمة هي في إظهار التناقض الذي تعيشه مدينة بيروت. تناقض ما بين الحلم والواقع، ما بين التراثي والحديث، ما بين القبح والجمال وما بين الاختناق والانشراح، وما بين البطء والسرعة مما يسلط الضوء على قابلية العيش في هكذا مدينة هي في طور تحول دائم معظمه عشوائي وغير مبني على أسس علمية وثقافية.
ليست هذه أول مرة تتناول فيها الفنانة مدينتها بيروت وعلى الأرجح لن تكون الأخيرة وقد سبق أن قدمت سنة 2018 في صالة “أرت أون 56 ستريت” معرضا عنونته بـ”هندسات بيروتية”، حيث قدمت مجموعة لوحات تهجس بتراث بيروت المديني مشغولة بالأكريليك على القماش أو على الخشب المضغوط بأشكال غير تقليدية لاسيما الدائرية التي تحاكي نوافذ شائكة بمعانيها، معظم الأعمال كبيرة الحجم وتزخر بالزخرفات والتوليف الهندسي المُستقى خاصة من عالم الفن الإسلامي العريق بزخمه وتجريدية أشكاله ومقاييسه وهيئاته الرمزية المتكررة.
أما اليوم فتقدم الفنانة مجموعة أعمال فنية أنجزتها باستخدام مواد مختلفة من ضمنها الخشب والأكريليك والتنك المؤكسد، وتصور مدينة من خلال وجهات نظر مُبتكرة تحيلنا أحيانا كثيرة إلى مختلف زوايا نظرات الطائر إن هو حلق في سماء المدينة أو هبط على أحد أسطح مبانيها أو أرصفتها.
هذه القدرة على تصوير وجهات نظر مختلفة حضرت في معرضها السابق من خلال تصميم وتركيب فضاء اللوحات وعناصرها وقد استطاعت اتخاذ زوايا مُختارة للتركيز على تفصيل دون آخر، وبذلك ذكّرت زائر معرضها ببراعة مصور فوتوغرافي يعرف كيف يفكك أي مشهد أمامه ليعيد تركيبه من خلال عدسة كاميرته فيقبض ويظهر روح المكان الذي يصوره.
تبلورت هذه القدرة في معرض الفنانة الحالي لتخترق وإن افتراضيا ومعنويا ماهية الكامن تحت سطح أرض المدينة وشديد الأهمية بالنسبة إلى ما هو على سطح الأرض.
وهنا تماما أدخلت خضري نصها الفني إلى عالم الخرافة وذلك عبر إظهار واستنطاق عنصرين هندسيين وهما “لو كوربو” قطعة أساسية مزخرفة تجمع ما بين الشرفات القائمة في مبنى واحد راجت في المباني الباريسية القديمة، وهي أيضا داعمة لأرض شرفات المباني. يمكن رؤيتها بوضوح إن وقفنا على الشارع ونظرنا إلى الأعلى باتجاه الشرفات. عناصر قد لا نلتفت إليها عادة وتحمل في لوحاتها جمالية سحرية خاصة.
أما العنصر الهندسي الثاني فهو أغطية مجاري المياه الحديدية على الطرقات التي غالبا ما تبرز عليها السنة التي تم فيها وضعها ومن حولها زخرفات طفيفة. وأطلق على هذه الأغطية باللغة الفرنسية بـ”الريغار” وهي الكلمة التي تستخدم اليوم لبنانيا.
أما خاصية الخرافة التي أرخت بظلالها على لوحات الفنانة فتكمن خاصة في تركيزها على رسم “الريغارات” بواقعية شديدة لتضيف إليها عناصر من الواقع، كطائر حمام حط رحاله عليها وورقة شجر يابسة جرفتها نسمة أو مرور سيار عابثة وأخرى خضراء نضرة ربما سقطت لتوها من الشجرة المجاورة للطريق، وعقاب سيجارة قد انتهى منها مُدخنها، ولكنها مشاهد مرسومة برهافة شديدة إلى الحد الذي حولها إلى إشارات تكشف عن حياة ما خلف هذه “الريغارات” التي اختارتها الفنانة أن تكون سيدة العديد من لوحاتها، حتى أنها جعلتها تشبه أحجار نقدية في لوحة من اللوحات.
تقول الفنانة خضري حول هذه القطع الهندسية أي القطع الحجرية الداعمة من السقوط و”الريغارات” في إحدى مقابلاتها إن الأولى تمثل السند الذي نحب الاتكاء عليه ونحتاجه. أما الثانية فهي بمثابة طريق هروب نحو الأمل، فجمعتهما معاً للإشارة إلى أن بيروت ومهما واجهت من أزمات تبقى السند لنا. ولا بد أن تجد طاقة الأمل التي تخرجها من العتمة.

يتساءل الناظر إلى هذه اللوحات إن كانت تلك “الريغارات” مخارج أو مداخل للمدينة لتصبح لأجل ذلك مرافق تصل السطح بعالم سفلي ليس بالضرورة لمجارير المياه وشبكات الاتصال وغيرها، بل لمدينة بيروت كما كانت في الزمن الماضي مع شرفاتها المزدانة بأزهار الجيرانيوم وأيضا أزهار شجرة الدفلة والزيتون الذي لا يزال شاهدا على ارتباط المدينة بسابقها الملون والشاعري.
وإن استطردنا في عالم الخيال الذي تفتح حقله أمامنا الفنانة، سنقول إنها تصور عالما سفليا موازيا للعالم الذي نعرفه على سطح المدينة دون أن ترينا إياه. كل واحد منا عليه تخيل أو تذكر بيروت الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي قبل أن تجتاحها الحرب والتحضر العشوائي.