اللبنانية رولا الحسين تستعرض أمام ذاتها يومياتها العادية

إن اعتدنا مشاهدة شيء ما ألفته أعيينا صار عاديا لا إثارة فيه، بل أحيانا نمل منه وننصرف عنه؛ لذلك تحاول الفنانة اللبنانية رولا الحسين، في معرضها التشكيلي الأول الذي جاء بعد العديد من الصعوبات، أن تكشف لنا مدى الجمال الكامن في الأشياء العادية من حولنا، فحياتنا التي اعتدناها تتحول في لوحاتها إلى تفاصيل مثيرة ونجوم تشع بالجمال.
تقدم صالة “أجيال” الفنية في بيروت منذ الخامس والعشرين من أبريل الفائت معرضا للفنانة والكاتبة اللبنانية رولا الحسين تحت عنوان “يومياتي العادية”. في المعرض الذي يتواصل حتى مطلع شهر يونيو المقبل مجموعة من الأعمال معظمها بالمقاسات المتوسطة والصغيرة، زاخرة بهدوء العبور بين أشياء مهمة وغير مهمة في آن واحد.
أول ما يخطر على بال زائر معرض الفنانة اللبنانية رولا الحسين في الصالة هو أن للبنانية مجموعة من الأسئلة المتزاحمة التي تتوالد من بعضها البعض. أهم هذه الأسئلة هي: لمن ترسم الفنانة؟ لماذا اختارت أشياء محددة دون سواها كي تصورها في لوحاتها؟ هل لأن لها مكانة ما؟ وكيف انتقلت من رسم تلك الأشياء إلى رسم ذاتها في حميمية بيتها وكأن ما من متلصص عليها إلا ذاتها، هذا إن صح التعبير؟
لأي سبب تبدو أعمالها التي تصور فيها جسدها العاري بعيدا عن الغواية وفي بساطة انسجامه مع المحيط المُقفل عليها وغير المبالي بالنظرة الذكورية؟ كيف تمكنت من أن تقدم هذه الأعمال “العارية” وكأنها مواقف تنطلق من مبدأ واحد: لا تهمني نظرتك إليّ ولست مبالية بأي شعور قد يحرك في نفسك جسدي المرسوم أمامك؟
اللوحات التي تعتلي جدران الصالة في أناقة واضحة اعتدناها في صالة “أجيال” التي لطالما اعتبرت كيفية العرض هو بأهمية الأعمال الفنية، تدعونا إلى أن نتناسى هذه الأسئلة التي ما تلبث أن تتلاشى في ذهننا الواحد تلو الآخر.
رصد للجمال
فما تستعرضه الفنانة وكيفية رسمه بصراحة لا لبس فيها قادر على أن يكمّ فاه التساؤل المُزعج ويستطيع أن يلطف ويخفف، طول فترة زيارة المعرض، الشعور بأي ضيق يرهق قلب الإنسان، شرط أن يترك نفسه تسترسل فيما يُشاهد.
لوحات الفنانة رولا الحسين تذكرنا بأن كل أمر عابر وجميل كالأشياء العابرة التي نستخدمها في حياتنا اليومية: القميص الذي سيصبح باليا أو مُملا، والحذاء الذي ستبهت ألوانه والفاكهة التي ستؤكل. كل شيء جميل ببساطته ربما لأنه تحديدا عابر ويشبهنا ويشبه علاقاتنا ببعضنا البعض. علاقاتنا التي إما سيمزقها الموت أو سيبعثرها النسيان أو ستبددها اللامبالاة المُستفحلة في زمننا المعاصر.
تكتنز لوحات الفنانة اللبنانية ببساطة خطيرة قوامها موقف تجاه الحياة والعلاقة مع الآخر الحاضر والغائب على حد السواء. الآخر الذي هو في كلتا الحالتين ليس على قدر من الأهمية، ربما إلا لفترة قصيرة هي بالتأكيد أقصر من حياة الأشياء العابرة المُعمّرة أكثر منا. ألا تستحق هذه الأخيرة أعمالا فنية تمجدها؟
تسعى الفنانة إلى أن تخطف الأشياء من حضورها العابر، وتنجح في ذلك. ومن هنا تأتي أهميتها. ثم تجعلها أيقونات من الحياة اليومية، من حياة الفنانة رولا الحسين أولا وتاليا من حياة الكثيرين منا الذين سيجدون في المعرض الكثير مما يعيشون معه وبه في يومياتهم العادية.
◙ رسومات الفنانة اللبنانية هي ما سيعثر عليه المُشاهد إن التفت إلى حياته اليومية وأشيائها
مما يذكر البيان الصحفي المرافق للمعرض أن رسومات الفنانة “هي ما سيعثر عليه المُشاهد إن هو التفت إلى حياته اليومية وأشيائها. بل أكثر من ذلك، فالأعمال تبدو وكأنها تصور الأشياء التي سيدرجها فيلم أو مسرحية ما قبل الشروع في برنامج التصوير أو تقديم عمل على خشبة المسرح. كذلك الأمر بالنسبة إلى ما صورته من جسدها”.
ويضيف البيان الصحفي الكلمات المفصلية هذه: “يوثق المعرض الاتجاه الذي تنطلق منه نظرة الفنانة إلى الأشياء”. وتأخذنا هذه الفكرة إلى عمق البساطة التي تناولت فيها الفنانة ذاتها والأشياء من حولها التي ليست أشياء مهمة إلا لأنها في تماس معها ومع استخدمها لها. حتى النباتات المزروعة في الأوعية الصغيرة، كالأزهار ونبات الصبار، هي من “مُستخدماتها” لأنها انتقتها وجعلتها محطّ أنظارها.
مفهوم الوحدة
من ناحية أخرى قد يخطر على بال المتجول بين اللوحات أن الفنانة في أعمالها تلك تمارس نوعا من التوثيق المُطمئن للنفس. الأمر أشبه بشخص يقوم بِعدّ الأشياء التي اختبرها على أصابعه حتى لا ينساها لاسيما بعد تجربة ما من حياته: الكرسي، القميص، الحذاء، الكأس، الزهرة،... وكل ما يؤثث المساحة التي يعيشها وتعيش فيه، خاصة بعد أن يغادرها أو تغادره.
هل تحيلنا هذه الأفكار المطروحة إلى معنى الوحدة عند الفنانة؟ سؤال آخر من الأسئلة التي ستراود زائر معرضها قبل أن تزول أهميته كباقي الأسئلة المطروحة آنفا. العيش مع الذات لا يعتبر وحدة في عالم صار فيه الآخر رفيقا مرحليا لن يدوم بقدر ما تدوم الزهرة المزروعة في الوعاء والموضوعة على طاولة أمامنا. ولن يدوم وفاؤه كما يدوم وفاء وحب كلب رسمته الفنانة في لوحتها.
من هنا ظهرت الوحدة الحاضرة حتما في العديد من اللوحات رفيقا لطيفا لا نخاف من هجرانه أو خيانته فاقتضى قبوله بلسما لأي جرح إن حصل ووقع.
أما من ناحية الأسلوب فتبدو ذبذبات الخطوط أو الأشواك المتداخلة التي تنبثق منها العديد من الأشياء المرسومة كأنها دروع أو هالات حامية لها. لنحتفل بأشيائنا الخاصة وبالأمور البسيطة التي لم نعرف أن نقيم لها وزنا قبل أن نصبح نحن أيضا مثلها مجرد عناصر تَعدّ أعدادها على أصابع اليد.
يُذكر أن الفنانة رولا الحسين من مواليد 1978. حاصلة على شهادة في الفنون الجميلة من الجامعة اللبنانية سنة 2003. لم تستطع أن تنطلق في مسيرتها الفنية إلا منذ ما يقارب السنتين ويعود ذلك حسب ما ذكرت في أكثر من مناسبة إلى ظروف اقتصادية صعبة.
وقد عملت في أكثر من مجال مهني وذلك في إسطنبول والدوحة ودبي. غير أن مجال العمل الذي أخذ القسم الأكبر من وقتها هو عالم التلفزيون. عند عودتها منذ سنتين إلى لبنان اتخذت قرار ترك الوظيفة والتفرغ للفن لتجد نفسها مأخوذة بتصوير الأشياء من حولها وبما تعني لها. والمعرض الذي تقيمه حاليا في صالة “أجيال” الفنية هو معرضها الفردي الأول.