تراجع زواج الأقارب يعكس تنامي الوعي الأسري في مصر

انخفضت نسب زواج الأقارب في مصر حاليا إلى 12 في المئة مقارنة بنحو 32 في المئة قبل سنوات، وفق بيانات لوزارة الصحة، ما يعكس تحرر عدد من الأسر ومن ورائها بناتها من العرف الذي يفرض عليهن ألا يتزوجن من خارج العائلة الموسعة. وكانت الحكومة المصرية قد ألزمت المقبلين على الزواج بإجراء فحوصات طبية ما يساهم في القضاء على زواج الأقارب المنتشر في الريف وبعض المناطق القبلية والشعبية.
القاهرة - عكس إعلان وزارة الصحة المصرية عن تراجع معدل زواج الأقارب تنامي مستوى الوعي الأسري بخطورة هذه النوعية من الزيجات، وانفتاح الآباء على الأبناء في حرية اختيار الشريك المناسب بعيدا عن إجبار أيّ منهما على الزواج من أحد الأقارب، تماشيا مع الأعراف والتقاليد المتبعة في العديد من المناطق.
وقالت وزارة الصحة إن نسب زواج الأقارب انخفضت حاليا إلى 12 في المئة، مقارنة بنحو 32 في المئة قبل سنوات، وبالتالي تراجع معدل الإصابة بتشوهات الأجنة وانخفضت الأمراض الوراثية التي كان الأبناء يدفعون فاتورتها بسبب زواج الأقارب ودون إجراء فحوصات طبية تكشف مدى إصابة أحد الطرفين بأمراض.
وكانت الحكومة بدأت منتصف فبراير الماضي إلزام المقبلين على الزواج بإجراء فحوصات طبية كشرط لإتمام الزواج على أن تكون هناك عقوبات تصل إلى الحبس، حال التلاعب بنتيجة الفحوصات، ما يساهم في القضاء على زواج الأقارب المنتشر في الريف وبعض المناطق القبلية والشعبية.
ويوحي التراجع في نسب زواج الأقارب بأن الأسر التي كانت تؤمن به بدأت تتحرر من عرف فرض على الفتاة ألا تتزوج من خارج إطار العائلة للحفاظ على الميراث وعدم انتقاله إلى رجال غرباء أو عدم الطمأنينة بأن تعيش الابنة بعيدا عن عائلتها.
ولم تكن الكثير من الفتيات اللاتي يعشن في مناطق تحكمها عادات وتقاليد وأعراف يمتلكن رفاهية رفض الزواج من أحد أقاربهن، طالما أن الأسرة قررت ذلك، حيث تكون الفتاة غالبا مضطرة للقبول بالزواج من أحد أبناء عمومتها، بغض النظر عن التوافق الفكري والثقافي والنفسي بينهما.
ولم تكشف الدراسات التي أجرتها الحكومة بشأن زواج الأقارب عن الأسباب التي أدت إلى انخفاضه، لكن الواضح أن منسوب الوعي الأسري ارتفع، وأصبحت لدى الأجيال الجديدة رؤية عقلانية في مسألة ترك الأبناء يختارون شركاءهم بحرية، كما تراجعت قيمة الأمان والطمأنينة إذا تزوجت الفتاة من أحد أقاربها.
كما أن تسارع عجلة التحول الحضري والتكنولوجي ساهم في الحد من ظاهرة زواج الأقارب جراء نمو الوعي العام بالمخاطر الصحية، وارتفاع مستوى التعليم، واتساع الحرية الشخصية، وتزايد أعداد من يختارون شركاء حياتهم بلا تأثير من الأسرة.
ويرتبط ذلك بإيمان الكثير من أرباب الأسر في المناطق الريفية والشعبية والقبلية بأن التوترات التي تحدث في زواج الأقارب باتت مثيرة للمخاوف، ومن غير المعقول أن يتم إكراه الفتاة على الزواج من شاب لمجرد أنه من العائلة، وهدم حياة الابنة بذريعة الحفاظ على الميراث، ومن ثم اختزال العلاقة في نواح تجارية بحتة.
ونجحت مساعي الحكومة ممثلة في الجهات المعنية بالتخطيط للزواج الصحيح، مثل وزارة التضامن الاجتماعي والمجلس القومي للمرأة والمجلس القومي للأمومة والطفولة، في أن تغير قناعات العديد من الأسر المؤمنة بزواج الأقارب، وظهرت ثقافة مرتبطة بالزواج الصحي، وهو مفهوم يؤسس لحالة من التكامل بين الزوجين.
ومن هؤلاء عبدالعزيز السيد وهو رب أسرة ريفية مكونة من خمس بنات، وكان يؤمن بحتمية تزويج كل بناته إلى أقارب، لأنه يمتلك مساحات شاسعة من الأراضي والعقارات، وتغيرت قناعته مع انفتاح أصبح موجودا في الريف بعدم ظلم بناته باختيار شباب من العائلة لهن، قد يكونون غير أمناء عليهم.
وقال السيد لـ"العرب" إنه أدرك منذ سنوات عدم أحقيته في اختيار شركاء حياة لبناته، وأن هذا أمر يخصهن وحدهن، مع أنه قد يكون ضد العرف والتقليد الذي لا يزال موجودا على استحياء، وترك لكل واحدة منهن اختيار شريك حياتها، لأنها ستعيش معه وحدها، وتتحمله وتستوعب طباعه ولا أحد سواها سيشاركها في ذلك نفسيا وعاطفيا.
ولم ينف الأب أن تغير مواقفه مرتبط بكونه شاهد عديد من الزيجات تنهار سريعا أمامه بعد أن تدخل الآباء في اختيارات الشريك، للابن أو الابنة، كما أن أرباب الأسر لهم حسابات مختلفة عن الاعتبارات التي على أساسها يختار الأبناء شركاء حياتهم، ما يترتب عليه تعاسة زوجية، ولم يعد هناك بديل إلا أن تختار الفتاة من تستريح له.
وأقرّ بأنه كان يجهل مخاطر الإصرار على زواج الأقارب وانعكاسه على صحة الأبناء مستقبلا، وأمام تحذيرات طبية متكررة من أن تنتج هذه الزيجات تشوهات، وإصابة الأطفال بأمراض وراثية تنغص حياة الزوجين، تبدّل موقفه مثل الكثير من أرباب الأسر، وهذا لا ينفصل عن تكثيف الخطاب التوعوي الذي تم تقديمه للأسر.
وحذرت دراسة سابقة صادرة عن محكمة الأسرة بالقاهرة من كثرة تدخلات الأهل في الزواج والإجبار على شريك بعينه بأن يكون من الأقارب، وقالت إن قرابة 52 في المئة من دعاوى الطلاق بسبب الإكراه، ما يعني أن الوصاية تقود إلى الطلاق المعلن أو الصامت، فقد يعيش الشريكان مع بعضهما وهما منفصلان نفسيا.
ولا تزال المعضلة القائمة مرتبطة بأن بعض الآباء يستخدمون لغة الدين لترهيب الشاب أو الفتاة إذا قرر أحدهما أو كلاهما معصية الأسرة في الزواج من شخص بعينه، باعتبار أن الأب هو الأكثر قدرة على اختيار الشريك المناسب وفق معايير شخصية ترتبط بمستوى اجتماعي واقتصادي لائق دون اكتراث بالتوافق العام بين الطرفين.
◙ الفتيات اللاتي يعشن في مناطق تحكمها العادات والتقاليد والأعراف لم يكن يمتلكن رفاهية رفض الزواج من أحد أقاربهن
وتحولت هذه المشكلة إلى ظاهرة أسرية يعاني منها الكثير من الشباب والفتيات في مصر، لأن بعض الأسر تميل إلى زواج الأقارب وعدم استطلاع رأي الفتاة في من يتقدم لخطبتها أو الاتفاق على موعد الخطبة والزواج على عكس إرادتها، وإذا سئل الأب يبرر موقفه بأن الدين دعاه إلى اختيار الأصلح لأولاده، مع أن المؤسسة الدينية حرمت إكراه الأبناء على الزواج من أشخاص بعينهم.
وأوضحت هالة حماد وهي استشارية نفسية ومتخصصة في العلاقات الأسرية وتقويم السلوك بالقاهرة، أن إسقاط وصاية الآباء على الأبناء في اختيار الشريك يتطلب حراكا دينيا وثقافيا وفكريا وصحيا مكثفا للقضاء على ما تبقى من معدلات في زواج الأقارب، والأمر أصبح يحتاج إلى إبراز مخاطر الزواج بالإكراه للشاب والفتاة، فالحياة الزوجية السوية أساسها السلام النفسي والسلوكي والتوافق والتفاهم والمشاعر المتبادلة.
وذكرت لـ"العرب" أن انخفاض معدلات زواج الأقارب يعكس وعي الأجيال الجديدة بالتبعات الخطيرة للتدخل في اختيارات الأبناء بشأن الزواج، وهو ما يجب أن تفهمه باقي الأسر وتدرك أن معايير اختياراتها مختلفة عن طموحات ورغبات أولادها في شريك الحياة، فالأجيال الجديدة لها سمات خاصة بها، وهناك من يهتم بالمال ومن يهتم بالعاطفة والراحة النفسية والتوافق في الصفات الشخصية.
ويمكن تنفيذ المواجهة مع ما تبقى من أسر مؤمنة بزواج الأقارب عبر المساجد والكنائس ووسائل الإعلام والمناهج التعليمية والمنظمات الحقوقية لإقناع الأسر بأن حرية اختيار شريك الحياة توازيها زيادة في درجة التوافق الفكري والوجداني وتحقيق درجة من الرضا مع الطرف الآخر، وبالتالي تحقيق السعادة والاستقرار العاطفي، وهي مكتسبات تريدها كل أسرة لأولادها وبناتها.