مصر تقفز على الخلاف الفقهي وتقر نموذجا للتبرع بالأعضاء

القاهرة - قفزت الحكومة المصرية على الخلاف الفقهي المرتبط بالتبرع بالأعضاء بعد الموت، وأصدرت رسميا أول نموذج للتبرع بالأعضاء ولن تنتظر حسم الرأي الديني في تلك القضية، في توجه يعكس أنها قررت التسلح بالإرادة السياسية في مواجهة الهواجس الدينية التي تغذت عليها الأصوات المعارضة.
وأعلنت وزارة الصحة أنها تتيح نموذجا موثقا للتبرع بالأعضاء في أي مستشفى يوقع عليه المواطن في أي وقت دون لجوء إلى جهات التوثيق الرسمية لتسهيل المهمة على الراغبين في التبرع، وهي خطوة جريئة تمثل انتصارا سياسيا للحكومة.
ورغم إقرار جهات الفتوى في مصر أن التبرع بالأعضاء بعد الوفاة جائز شرعا، لكن الخلاف الفقهي زرع بين الناس حالة من الشك ما أحدث انقساما استغله متشددون.
وقال خالد عبدالغفار وزير الصحة المصري أمام مجلس النواب الثلاثاء إن تفعيل قانون زراعة الأعضاء البشرية والقرنية أمر بسيط ولا يحتاج إلى إجراءات طويلة، وهناك لجنة من المتخصصين لتفعيل القانون على أرض الواقع، والجدل الديني حول هذا الأمر حسم منذ سنوات، ولا داعي للنبش فيه مرة ثانية.
وتخشى أصوات حقوقية وطبية أن يُساء استغلال القانون ويصبح مدخلا لاستغلال الفقراء من قبل سماسرة للمتاجرة بأعضائهم وتوظيف إقرارات بالموافقة على التبرع بالأعضاء للبيع تحت مسمى التبرع كي لا يتعرض أحد للمساءلة القانونية، غير أن القانون تضمن نصا صريحا أن نقل الأعضاء لن يتم قبل التأكد من الموت المحقق وبلا مقابل مادي.
وتحظى قضية التبرع بالأعضاء البشرية بدعم سياسي غير محدود من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي حيث طالب الحكومة مؤخرا بإنشاء مركز إقليمي لزراعة الأعضاء، بعد سنوات من المواقف الرسمية المرتبكة التي أخذت أبعادا دينية وأخرى اجتماعية قادت نحو إصدار قانون ينظم نقل الأعضاء وزراعتها ولم يتم تفعيله بعد اثني عشر عاما من إقراره.
وتتعرض الحكومة المصرية في كل مرة تثير فيها مسألة نقل الأعضاء من المتوفى لانتقادات من قوى مختلفة واتهامها بأنها تتجاوز الخط الأحمر المبني على رؤى فقهية متشددة، لذلك تجنبت تبني موقف صارم وأقرت تطبيق القانون عمليا أخيرا.
وقد لا تكون خطوة الحكومة لتفعيل قانون نقل وزراعة الأعضاء كافية للانتصار على التشدد الفقهي، ما يضع على كاهلها مهمة أخرى ترتبط برفع منسوب الوعي المجتمعي ونقل ثقافة التبرع بين الناس من خلال خطاب يستطيع أن يستقطب الشريحة المتحفظة بعيدا عن التشدد الديني، لأن العبرة في تجاوب الناس معه وليس إصداره فقط.
وبلغت محاولات إجهاض قانون التبرع بالأعضاء بعد الوفاة حد أن بعض المعارضين حاولوا توظيفه في اختلاق أزمات طائفية بذريعة أن المتبرع له قد يكون شخصا مسيحي الديانة، في حين لا يجوز شرعا أن يستفيد أصحاب الديانات الأخرى من أجساد المسلمين، في محاولة لترهيب المجتمع من الفكرة برمتها وإقناع الناس بأن الخطوة “حرام شرعا” ما يضع المتبرع والمتبرع له في مأزق ديني.
وأكد طارق هاشم مستشار وزير الصحة المصري سابقا أن قفز الحكومة على الخلافات الفقهية بشأن نقل الأعضاء انتصار سياسي ضروري لإسكات الأصوات المتشددة التي تستثمر الدين لتجييش الناس ضد أي قرار أو قانون يتلامس معه.
وأضاف لـ”العرب” أن التخوف المجتمعي من فكرة التبرع بالأعضاء بعد الموت سببه استمرار الخلاف الفقهي حول القضية، وكان لزاما على الحكومة أن تتدخل بقرار سياسي مدعوم برلمانيا لاتخاذ موقف حاسم طالما أن هناك فتاوى غير صحيحة تقف حائلا ضد إنقاذ الناس، ويروّج أصحابها أنهم ينفذون تعاليم دينية.
وأصبحت الجرأة السياسية من جانب الحكومة لإحياء قانون معطل منذ سنوات رغم الحواجز النفسية والاجتماعية التي واجهته هي السبيل لفلترة العقول التي أصبحت أسيرة خطاب ديني غير إنساني، لكن تظل العبرة في الاستمرار والتصدي للتحديات.
كما أنه يصعب أن تكون لدى مصر إمكانيات لوجستية وعلمية لتفعيل قانون نقل وزراعة الأعضاء من المتوفين إلى الأحياء وتبقى المشكلة أسيرة للمرجعيات الدينية المختلفة، وتواصل الحكومة تجاهل التطبيق خشية الخلاف مع شريحة محافظة.
وأدى تلكؤ الحكومات المصرية المتعاقبة في تفعيل قانون نقل وزراعة الأعضاء إلى وجود مافيا خاصة بتجارة الأعضاء البشرية تدير جرائمها بعيدا عن المؤسسات الرقابية، ما تسبب في منغصات سياسية عديدة للدولة، واتهامها من جانب منظمات حقوقية بأنها ضمن الدول النامية التي لا تواجه الاتجار في البشر بصرامة كافية بسبب ظروف سياسية فضّلت فيها الحكومة تجنب مواجهة المتشددين.
وأكدت تعليقات جمهور مواقع التواصل الاجتماعي على قرار وزارة الصحة بإتاحة نماذج التبرع بالأعضاء في المستشفيات أن رأي جهة الفتوى والأزهر مهما كان مستندا على رؤى شرعية لدعم قرار الحكومة لن يؤثر في قناعات شريحة محافظة.
وقال عبدالحميد زيد الخبير في علم الاجتماع السياسي لـ”العرب” إن الحكومة بحاجة إلى خطاب داعم للقانون لاستقطاب الناس بعيدا عن الميراث الديني الخاطئ الذي تم تكريسه في أذهان الناس من أن الإسلام يرفض التبرع بالأعضاء بعد الموت، ما أحدث لدى المجتمع حساسية مفرطة من التطرق إلى القضية سلبا أو إيجابا.
ولفت إلى أن توافر الإرادة السياسية يجب أن يصبح نهجا في القضايا المجتمعية بعيدا عن بعض الرؤى الضيقة، ومن المهم أيضا توفير خطاب توعوي بسيط ومقنع، لأن الشارع المصري في حالة تحفز دائم ويحتاج إلى خطاب رسمي موثوق فيه.
ومن المفترض أن تكون الحكومة متسلحة بإرادة سياسية في أي قضية لها أبعاد دينية، ولا تنتظر رأيا من مؤسسة دينية أو غيرها إذا أرادت بناء دولة مدنية حقيقية وفق نص الدستور، وطالما أن رجال الدين أنفسهم لا يتفقون على شيء وتخرج خلافاتهم إلى العلن بشكل يدفع الشارع إلى تفضيل التمسك برأيه الشخصي أو استفتاء السلفيين.