تراجع ملحوظ في عدد عقود الزواج بتونس خلال السنوات الأخيرة

كشفت الأرقام الرسمية في تونس تراجعا كبيرا في عدد عقود الزواج خلال السنوات الخمس الأخيرة، ما يكرّس فكرة عزوف الشباب عن الزواج، وسط إجماع الخبراء على أن الارتباط وتكوين الأسر باتا أمرا ثانويا لأسباب اجتماعية واقتصادية بالأساس. ويرى الخبراء أن الجوانب الذاتية أيضا أصبحت عاملا مهما حال دون تتويج العلاقات بارتباط رسمي من بينها اهتزاز الثقة في الطرف الآخر.
تونس - تؤكّد معطيات نشرها المعهد الوطني للإحصاء أن عدد عقود الزواج تراجع إلى 65630 عقدا سنة 2020، بعد ما كان في حدود 198125 عقدا في سنة 2016.
وأشارت النشرة الإحصائية السنوية لتونس (2016 – 2020) إلى أن سنة 2020 شهدت أعلى نسبة انخفاض في عدد الزيجات بلغت 21 في المئة، ليصل إلى 65630 عقدا بعدما كان في حدود 83105 عقود في سنة 2019.
ورافق هذا المنحى التنازلي لعدد الزيجات تراجع هام في عدد الولادات خلال الفترة الممتدة من 2016 إلى 2020 بنسبة 20.6 في المئة.
وانخفض عدد الولادات، حسب النشـرة الإحصائية السـنوية لتونس، من 219400 ولادة سنة 2016، إلى 174100 ولادة سنة 2020.
وسيؤثر ذلك بشكل كبير على الهرم السكاني في تونس، الذي يتجه نحو التهرم، خاصة بعد انتهاء مرحلة الانتقال الديمغرافي في سنة 2010.
ويرى مراقبون أنه فضلا عن تعمق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي عسّرت طريق الزواج بالنسبة إلى الشباب التونسي، فإن الجوانب الذاتية أيضا أصبحت عاملا مهما حال دون تتويج العلاقات بارتباط رسمي، من بينها اهتزاز منسوب الثقة في الطرف الآخر.
وقال المتخصص في علم الاجتماع، العيد أولاد عبدالله، “هناك جانب ذاتي ونفسي يتعلق بمسألة الثقة في الطرف الثاني نتيجة جملة من المعطيات وكذلك تأثير وسائل التواصل الاجتماعي”.
وأوضح في تصريح لـ”العرب”، أن هناك جانبا خارجيا يتمثل في العوامل الاقتصادية والاجتماعية على غرار البطالة وانسداد الآفاق من خلال ارتفاع نسبة الهجرة غير النظامية التي استقطبت النساء والأطفال والأسر.
وتابع أولاد عبدالله “أصبح من الصعب جدا تكوين أسرة، وهو مشروع عاطفي وعلائقي ولكنه مشروع اقتصادي بالأساس، فضلا عن ارتفاع كلفة الزواج كتظاهرة عائلية وهناك من يجد نفسه مرتهنا تحت طائلة العادات والتقاليد”.
ولفت إلى أن تأخر الإنجاب هو نتيجة لكل ذلك وكلما تأخر سن الزواج ستتقلّص فرص الإنجاب (أحيانا الفارق بين الطرفين يكون 20 سنة)، مؤكّدا أنه لا بدّ من إعداد الشباب للحياة الزوجية، كما هو الشأن في المجتمعات المتقدمة التي تنظم دورات تكوينية في هذا الغرض، والاشتغال على المفاهيم وحوكمة الشأن الأسري والمنزلي.
واستطرد أولاد عبدالله “أثبتت الدراسات أن مولودا جديدا في الأسرة يمكن أن يكون سببا في الطلاق، ويتحوّل من خبر سار إلى خبر مفزع”.
وترمي الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة بظلالها على وضعيات الشباب التونسي المفكر في الزواج، حيث يفضّل الكثيرون تأجيل فكرة الزواج أو العزوف كليا عن الارتباط.
الجوانب الذاتية أصبحت عاملا مهما حال دون تتويج العلاقات بارتباط رسمي، من بينها اهتزاز منسوب الثقة في الطرف الآخر
وقال (م.ع) البالغ من العمر 40 سنة وهو موظف بشركة، إنه “فضلا عن العزوف هناك تأخر في سن الزواج حتى يكمل الشاب دراسته ثم يشتغل ويبني بيتا مؤثثا، ويشتري سيارة حتّى يعزز حظوظه في الظفر بزوجة جميلة أكثر من كونها زوجة صالحة”.
وأضاف لـ”العرب”، أن هناك أزمة بطالة محتدمة وغلاء مشطا في الأسعار كما أن تكاليف الزواج أصبحت تتطلب ميزانية كبيرة.
وتابع “هناك تصحّر فكري وديني ومعرفي بدواليب المؤسسة الزوجية وما تتطلبه من شروط قبل التفكير في اختيار الشريك والارتباط، وأصبح الشباب يفضلون عدم الارتباط هروبا من تحمل المسؤولية”.
بدورها، قالت سماح الهيشري أربعينية موظفة بالقطاع العمومي إنها كانت مقدمة على مشروع زواج لكنها تراجعت في الأخير، وفضلت أن تحمل لقب عزباء على مطلقة، نظرا إلى أنها اكتشفت في خطيبها صفات لم تلحظها من قبل مثل الطمع في راتبها، رغم أنه ميسور الحال.
وأضافت الهيشري لـ”العرب” “لم تجمعني بخطيبي علاقة حب ولكن بعض الأصدقاء توسطوا ليجمعوا بيننا في علاقة جدية، لكن اختلاف الطباع حال دون ذلك”.
واعتبرت أن “لغة المصالح أصبحت هي السائدة حتى في العلاقات الزوجية”.
المتطلبات المادية للزواج أمام غلاء المعيشة تعدّ عاملاً مؤثّرًا في عزوف الشباب عن الزواج
ويقول خبراء إن خروج المرأة للعمل وغلاء مستلزمات الزواج في تونس باتا عاملا معرقلا لإتمام الزواج، علاوة على المشاكل الاجتماعية على غرار ندرة فرص التشغيل وضبابية المشهد الاجتماعي وانسداد الآفاق المستقبلية.
واعتبر عامر الجريدي، كاتب عام المنظمة التونسية للتربية والأسرة، أن “عزوف الشباب عن الزواج أسبابه متنوعة ومختلفة ومتراكمة”، قائلا “هو نتيجة التحوّلات السوسيولوجية المتمثلة في ارتقاء المرأة من الدونيّة ‘الجندريّة’ إلى التناصف في الحقوق والواجبات وما تبعه من خروجها للعمل خارج البيت وارتقائها بالتعليم والعمل إلى المناصب القيادية في الإدارة والسياسة والأعمال والمجتمع المدني والإعلام والعلم والتكنولوجيا”.
وأضاف في تصريح لـ”العرب”، أنّ المتطلبات المادية للزواج أمام غلاء المعيشة تعدّ عاملاً مؤثّرًا في عزوف الشباب عن الزواج بالإضافة إلى انسداد آفاق التشغيل والبطالة المزمنة والخوف من الفشل في تحقيق التوازن والتماسك الأسَري.
وأشار إلى أن “كلّ هذه العوامل وأكثر جعلت الزواج يأتي في مرتبة ثانية بعد الحصول على شغل وتحقيق الاكتفاء المالي وكسب سيّارة، فضلاً عن الحلم بمغادرة البلاد من أجل آفاق أرحب في أوروبا أو في أميركا الشمالية سواء عن طريق الهجرة الشرعية بالنسبة إلى المتعلمين من خرّيجي الجامعة أو غير الشرعية بالنسبة إلى المنقطعين عن الدراسة”.
خروج المرأة للعمل وغلاء مستلزمات الزواج في تونس باتا عاملا معرقلا لإتمام الزواج
وأردف الجريدي “يبقى العامل التنموي المتردّي في غياب رؤية له وبرامج تنفيذية جدية السّبب الجامع لجميع العوامل التي تصبّ كلّها في انسداد الأفق والأمل لدى شباب تاهوا في مزاد الانتهازية السياسية والقصور القيادي للحكومات المتعاقبة على البلاد منذ سنة 2011”.
ويعتبر الأطباء المتخصصون في المجال أن الشباب أصبحوا يرفضون تحمل المسؤوليات داخل الأسر وسط مخاوف من تأثيرات نسب الطلاق والمشاكل الاجتماعية عليهم.
وأفادت خولة بلدي، أخصائية في علم النفس والاضطرابات الجنسية، أن من أسباب العزوف التربية على رفض تحمل المسؤولية والخوف من الدخول في الروتين الحياتي وفقدان الشغف بالزواج، علاوة على نسبة الطلاق المرتفعة والمشاكل الاجتماعية في علاقة بالزواج التي تخلف خوفا كبيرا واستباقا للفشل العاطفي.
وصرّحت لـ”العرب”، أن “هناك خوفا من التغيير وتفضيل البقاء في الرفاهية النفسية الحالية في علاقة بالعيش للنفس فقط، كما أن كثرة وجود مشاكل زوجية بين الوالدين تعتبر عاملا مباشرا باعتبار أنهما يمثلان المثال الأول والأهم لأبنائهم”.

وأردفت بلدي “عدم وجود ثقافة جنسية تعلم الإنسان كيفية التصرّف في العلاقات، وفقدان الثقة في الحوار والتحاور داخل العائلة وبذلك لا توجد حلول للمشاكل إلا الطلاق أو اللجوء إلى القضاء بصفة عامة، فضلا عن ارتفاع نسبة العنف الأسري وخوف المرأة من السقوط في العنف والاستغلال الزوجي وارتفاع قيمة المادة على حساب العواطف، كما أنه لم تعد هناك قيمة للمشاعر بل حسابات مادية نظرا إلى الظروف الاجتماعية والثقافية أيضا”.
وأدّى تأخر سن الزواج، وتزايد معدلات العزوف عن الزواج لدى الجنسين، إلى ارتفاع في نسبة العنوسة التي بلغت حوالي 81.1 في المئة لتصبح في مرتبة متقدمة.
ووفق تقرير صدر عن الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري فإن إجمالي”العانسات” في تونس بلغ أكثر من مليونين وربع مليون امرأة من مجموع نحو أربعة ملايين و900 ألف أنثى في البلاد.
وفي وقت سابق، أكّدت وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن آمال بلحاج موسى أن “التقديرات السكانية تبين أن المجتمع التونسي في طريقه إلى التهرم”.
وقالت في تصريح لإذاعة محلية، إن “نسبة كبار السن الذين تتجاوز أعمارهم 60 سنة تمثل حوالي 13 في المئة من المجتمع وهذه الفئة مرشحة للازدياد حسب الإسقاطات السكانية لتصل في سنة 2029 إلى حدود 17 في المئة”.