مركبة زهدي القادري الفضائية تخرج من محطة المُربع الثابت

يسافر الفنان التشكيلي الفلسطيني زهدي قادري بألوانه ولوحاته خارج إطار اللوحة الضيق التي يجعلها تبدو كمركبة من أشكال متنوعة تستكشف مناطق التماس بين المتضادات في الحياة، منطلقا من أزمات بلاده وصولا إلى الواقع العربي المشترك.
أن تكون فنانا ينطلق من المأساة الفلسطينية في أعمال فنية تجريدية غير مباشرة، وأن تتناول حالة الإنسان العربي المعاصر المُعلّق في آفاق جغرافية غير محدودة وضبابية هي في الآن ذاته جغرافية تمعن في التضييق على العناصر التي تحتويها بغض النظر إن كانت قد أفلحت أو لا، هو مسار فيه الكثير من الصعوبات والتحديات.
الفنان الفلسطيني زهدي قادري هو من هؤلاء الفنانين إن كان في المنظومة البصرية/التجريدية التي يقدمها أو من خلال الأفكار السياسية والفلسفية التي يتناولها.
محاولة اكتشاف
في التاسع عشر من سبتمبر الفائت افتتحت صالة “زاوية” الفنية فرع رام الله معرضا للفنان الفلسطيني متعدد الوسائط زهدي قادري يستمر حتى التاسع عشر من أكتوبر بعنوان “مناطق تماس”. يضم المعرض مجموعة كبيرة من الأعمال قال عنها الفنان إنه من خلالها “يحاول استكشاف مناطق التماس ما بين المتوقع وغير المتوقع، وبين الشكل الهندسي والخط الحر وبين التقليدي والمعاصر”.
والمتأمل لأعمال هذا الفنان الفلسطيني سيعثر حتما على محاولة اختصار ورشة بحث وجودية مُرهقة استطاع أن يخوضها وألا يتلطخ بأهوال متطلباتها.
أما البيان الصحافي المرافق للمعرض فقد ذكر أن أعمال الفنان “تنتمي إلى المدرسة التجريدية والتعبيرية، ويركز فيها على العالم البسيط البدائي من خلال التعبيرية وأيضا من خلال إقامة علاقة غير مستقرة ما بين العناصر على سطوح لوحاته، وفي مقدمتها المربع ليرمز إلى الثبات والأرض أو ‘فقدانها’، ويؤكد على ذلك من خلال تكرار الشكل إلى حد التلاشي”.
واللافت في لوحات الفنان التجريدية أن ثمة تشكيلا “يومض” فنرى شجرة أو تلة أو أفقا يتحول فيه المثلث (الذي بدا في بضع لوحات أشبه بسكين يبعثر أي احتمال للطمأنينة المتأتية من الثبات) إلى شراع وكأنه عبر تلك الأشكال الأليفة يحاول الفنان أن يبقينا في أرض الاستقرار حتى نتمكن من الدخول إلى عالمه الفوضوي المُحافظ بالرغم من ذلك على كُل متماسك.
أعمال زهدي قادري محاولة اختصار لورشة بحث وجودية مُرهقة استطاع أن يخوضها وألا يتلطخ بأهوال متطلباتها
وثمة أمر آخر يخدم الفنان لإيصال أفكاره وهو أن لوحاته في معظمها أعمال منجزة من عدة طبقات. فبعد أن كانت ثنائية في العديد من أعماله السابقة أصبحت اليوم مشغولة بالأبعاد الثلاثة حيث أخذ الفراغ حيزا وحجما وأصبح بحد ذاته شكلا هندسيا. كما تلعب الطبقات الشفافة دورا مهما في إدخال القلق إلى نواة الأعمال فتكون مُحرّكة لها.
وركز البيان الصحافي على عنصرين هندسيين بالغي الأهمية في لوحات زهدي قادري وهما، أولا المربع وثانيا الدائرة. وهما عنصران انشغل بهما الفنان منذ فترة طويلة حين اختار التجريد الفني في فترة كان الفن الواقعي والفن التزييني هما الأقرب إلى ذهن وقلب المُشاهد.
كما اعتبر البيان الصحافي أن أكثر ما يميز الدائرة التي شكلها الفنان هو “قدرتها على استيعاب المشهد العام، والناظر إلى المشهد وكل الأشكال الأخرى”، غير أن هذا التوصيف ربما لا ينطبق تماما على ما يمكن رؤيته إن نظرنا إلى سلسلة الأعمال وكأنها شريط متواصل يكثف ويختصر نهارا واحدا من حياة زهدي قادري وحياة من تشابهت تجربته الوجودية معه.
وأغلب الظن أن ما يميز هذه الدائرة عوضا عن الاستيعاب هو “زئبقية ضبابية”، إذا صح التعبير، تحافظ على مسافة آمنة بينها وبين ما يحيط بها. تكتيك ذكي سمح لها بأن تعبر مساحات لوحاته حيث تكثر العناصر الهندسية تارة وتخف تارة أخرى وتتداخل كثيرا عبر خطوط أفقية وعمودية نافرة ما تكاد أن تعقد الوصال بين الأشكال حتى تذوب أو تنهي ما بدأ من تجاور.
الآنية حاضرة في مجمل أعماله وهي آنية تكره المراوحة والثبات، ونقصد بذلك أن ثمة ما يوحي بأن أي جزء أو شكل أو خلفية تقبع عليها أو عبرها الدائرة “شبه القمرية” هو خاطف، أغلب الظن لأنه لا يتحمل المكوث في رتابة الأشكال المستقلة.
وجاءت العديد من الألوان التي استخدمها الفنان في خدمة تلك الفكرة: الأزرق الفاتح والرمادي الفاتح والأبيض.
حالات مختلفة
يشخصن الفنان الدائرة لتبدو صاحبة أحوال ذهنية ونفسية شديدة الاختلاف لدرجة أن يتراءى للناظر إليها أنها تلعب دور التخفي أو التحول الدائم كي تبقى على حياد. والحياد في عرف الفنان هو تلك البرودة اللاذعة التي تسمح لصاحبها بتجاوز الأزمات من دون الوقوع في قبضة من يريد به شرا ليس كفرد بل بما يمثل من قناعات ووضوح معرفيّ يدرك تماما ماذا يحدث في جغرافيا لوحاته التي كما ذكرنا آنفا تضيق على عناصرها، وهي في الآن ذاته جغرافيا ضبابية لأنها دوما في طور التحول والتخبط للحفاظ على الهيئات الأصلية لها.
ها هي الدائرة تظهر في حالات مختلفة عن بعضها البعض. دائرة تخبر، في كل لوحة تالية لأخرى، مُشاهدها أنه لم يتمكن من معرفتها حق المعرفة. وهكذا تصرّح الدائرة في لوحاته: أنا لست شمس الغروب. أنا لست شمس الشروق. أنا لست فلكا يتلقى حدّة الشفرة. أنا لست ثقبا أسود. أنا لست سراجا منيرا. أنا لست أقوى من كل عناصر اللوحة.
إن لم تكن الدائرة ما ظهرت عليه فما هي إذا؟ فما هي إذا عندما تشقها الخطوط أو تجعلها أحجاما منفصلة أو حين تعبرها أو تطلّ عليها من خلف مربع ليّن/صلب أفقي/عمودي/ثابت ومنهدم. إنها حتما طاقة أثيرية تتوالد من ذاتها في نسخ عديدة في كل ثانية يعتقد فيها المُشاهد أنها استقرت على حال.
أما في ما يخص المربع الذي حضر في لوحات كثيرة للفنان زهدي قادري وليس فقط في هذه اللوحات، ولسنا هنا في صدد الحديث عن تأثر الفنان بمدرسة وفلسفة الفنانين مالفيتش وكاندنسكي وموندريان في ما يخص الأشكال والألوان، فيقول عنه الفنان في أكثر من مناسبة “من ناحية فلسفية يمكن القول إن المربع هو المطلق، إذ من الممكن أن يحتوي جميع الأشكال داخله. غير أن المربع لم يبق على الوضعية ذاتها في أعمالي، بل تطور مفاهيميًا وبصريًا خلال مسيرتي الفنية. وفي السنوات الأخيرة، بدأ المربع في أعمالي بالسيلان، أو الانهيار”.
سيخلص مُشاهد الأعمال إلى أن المربع، بما يحتوي من أفكار وبما يمثل من جغرافيا فرضها واقع آثم، يستمر في انهياره الكليّ، ولكن ليس قبل أن تنجو الدائرة وتنطلق منه كمركبة زئبقية/فضائية مُحملة بنواة حياة لا تليق إلا بمربع “أصلي” لم يتم تزييفه.
