"الوهم" مغامرة وجودية لهيكلة عوالم موازية وخلق واقع جديد

يقدم الفنانون التشكيليون الشباب أعمالا مختلفة عمن سبقوهم، فانعكاسات الحياة المتأزمة تبدو شديدة عليهم، حتى أن بعضهم، ومنهم السوري كاميران خليل يحاول بريشاته تصوير حياة أخرى، وخلق واقع جديد وعالم أفضل مشحون بأسئلة وأجوبة لا تشبه عالمنا الراهن المشتت.
تقدم صالة "ميسيون دار" اللبنانية معرضا للفنان التشكيلي السوري الشاب كاميران خليل تحت عنوان "الوهم" حتى الثالث والعشرين من شهر سبتمبر الحالي. ويضم المعرض مجموعة من الأعمال معظمها بالحجم الكبير ومشغولة بالألوان الزيتية. قد يكون عنوان "الوهم" الذي وضعه الفنان لمعرضه عنوانا رائجا ومألوفا أطلقه فنانون تشكيليون كثر على معارضهم وارفق بعضهم هذه الكلمة بتعابير فضفاضة مثل "الوهم الكبير"، على سبيل المثال.
ولم يشكل هذا العنوان الذي وضعه الفنان خليل مدخلا حقيقيا لمعرضه إلا من باب عريض ومُشرّع على كل الاحتمالات. ولأول وهلة سيعتبر كل من اطلع على العنوان أنه سيكون مجرد واحد من المعارض الكثيرة التي صيغ لها هذا العنوان "كرقم رابح" ينسجم مع أي معرض كان.

حول معرضه هذا كتب الفنان خليل في البيان الصحافي "الوهم، خلق لواقع جديد، درجة أخرى من درجات الوعي. أمام هذا الوعي يغدو الواقع/واقعنا جديدا. ربما تسارع وتيرة الأحداث في عصرنا الحالي يدفع المرء لخلق حالة أقرب ما تكون للوهم/لواقع جديد. مغامرة وجودية لهيكلة عوالم أخرى موازية من خلال اللجوء إلى الوهم الذي يتحول في حين إلى آخر في جانبه الفني إلى صراع بين محاولة الكتلة/ المثقلة بالوهم في إزاحة فراغ اللوحة المحيط. أنا واللوحة في حوار دائم إذ تقول شخوص لوحاتي أحيانا: نحن وهم يا صديقي".
قدم الفنان معرضه هذا بالنص فكان هو الآخر فضفاضا ويشبه ضربا من ضروب الكتابة التلقائية التي تريد أن تحاصر أي معنى ممكن تبنيه ومن ثم تتولى عملية إخراجه عنوة إلى العلن فيشارك به كل من رأى الأعمال.
ولعل ذلك هو أهم مثال على الصعوبة التي قد يجدها أي فنان موهوب في التعبير عن أفكار ومشاعر كثيرة وضعها في لوحاته في بضع كلمات. ويحيلنا هذا الأمر إلى ما قاله يوما الفنان التشكيلي الأميركي إدوارد هوبر "إن كنت تستطيع التعبير عنه بالكلمات فلا داعي لأن ترسمه". وبالفعل، فما سيعثر عليه زائر المعرض هو أكثر بكثير مما قدمه النص التعريفي.
قدم الفنان عالما مشحونا بأسئلة عديدة ومتداخلة خطّ لها "أجوبة" بهيئة أسئلة إضافية عمقت من حجم التباس المعنى لتشتته في عدة معان غلبتها سوداوية واضحة. عالم خليل هو أكثر غنى مما ذكر في البيان الصحافي. فهو عالم جمع في مضمونه ما بين الرمزية والسوريالية والتعبيرية. وإذا كانت ثمة آلية يجب استخدامها لإدراك جانب كبير من تلك المعاني دون الوقوع في فوضى كلمات متشابهة ورنانة فيمكن اعتماد تقسيم أعماله المعروضة حسب مستويات مختلفة لناحية الفكرة الرئيسية التي قد تكون مُجسدة فيها.
المستوى الأول وهو الأشمل والذي أتاح إدراك أن "الوهم" أكثر من كونه صفة ظاهرة، وميزة يحتاجها الفن، هو مصدر رئيسي لإدراك ما هو الواقع وليس تشتيتا عنه. وحدها الجدلية القائمة ما بين الواقع والوهم قادرة على أن تصنع أزمات وجودية مُلحة تريد حلولا وإيجابيات واضحة مهما استحال ذلك حتى الآن بسبب قدرة الانسان المحدودة والمحكومة بدور الحواس في تصنيف ما هو واقعي وما هو مُتخايل، أي ما يُرى على أنه ليس أكثر من "وهم" وسيعبر ككل الأشياء والحالات الزائلة.

ومعظم لوحات الفنان تقع في خانة ذوبان الحدود (هذا إن وجدت) ما بين الوهم والواقع في تشكيلهما للمرئيات وما تتضمنه من معان جوهرية بالنسبة إلى البشر كالوحدة والحب والقلق والانتماء وغياب الألم الجسدي وذلك بالرغم من أن عناصر اللوحات بالغة الوضوح والحدة. أما المستوى الثاني فيقع خلف المستوى الأول الذي عبّد الطريق إليه ويمكن اختصاره بما قاله يوما ستيفن واينبرغ الفيزيائي الأميركي "الحياة تبدو في معظم الأحيان أكثر جمالا من كونها ضرورية".
وهنا تحديدا يظهر ما قاله الفنان في البيان الصحافي حول "العوالم الأخرى". فهي عوالم حاضرة في لوحاته “جميلة أكثر من كونها ضرورية” لأنها قد تحمل معاني الخلاص المُستتر في الفضاء الأسود، في الفراغ الذي يحيط بشخوصه والتي لا يُعقد الوصال معها وعبرها إلا من خلال عنصر غالبا هو موجود في لوحات الفنان وهو الوشاح الأبيض الذي يتحول في هيئات متعددة من خيط سميك مُحرك لأحجية مُربكة، إلى حبل مُسطّح إلى وشاح، إلى كفن حاضن، إلى مُضمد لجراح خفية، إلى حبل غير مرئي، ولكنه حاضر في أثره وفعله.
وفي هذا الجوّ الداكن تقف أحيانا شخوص الفنان مُعلقة تمر في نسيج جسدها آثار نجوم ونيازك عابرة وأحيانا أخرى تسبح الشخوص عارية من أثر الزمن غير القابل للقياس وخارجة عن محدودية مكان هو مفتوح يحمل إرهاصات اللقلق كما يحمل نفحات الحرية.
مع بضع خطوات بعيدا عن “تشريح” اللوحات يظهر تطابق المستويين المذكورين آنفا لتظهر شخوص الفنان كلها مخلوقات مُعاصرة تتمرس على العيش في وحدتها. وأكثر اللوحات إشارة إلى ذلك تلك التي تلتقط الوجوه عائمة في وسط العتمة مُحاطة بعضها بالوشاح الأبيض ومُتخلصة "ظاهريا" منه في لوحات أخرى بعد أن أدخلت شيفراته في عمق بنيانها.
يُذكر أن الفنان كاميران خليل هو من مواليد سنة 1986 وتلقى دراسته في أكاديمية الفنون في دمشق سنة 2009 ليحصل على الماجستير سنة 2016 من برلين. يعيش حاليا في مدينة بيروت. شارك الفنان في معارض داخل حلب، وبيروت، والبحرين، وبرلين، والسويد.