تراجع مستوى المعيشة يدفع أسرا مصرية إلى خفض مستوى تعليم أولادها

موجات الغلاء تُجبر الطلاب على الهروب من المدارس الخاصة إلى الحكومية.
الاثنين 2022/08/01
التعليم الحكومي ملاذ الأسر ضعيفة الدخل

أثّرت الأزمة الاقتصادية الراهنة على قدرة العديد من الأسر المصرية على دفع مستحقات المدارس الخاصة ما دفعها إلى الالتجاء إلى المدارس الحكومية لتأمين تعليم أبنائها. ويرى مستشارو العلاقات الأسرية أن تدهور الوضع المادي للأسرة بشكل مفاجئ أحد أصعب الاختبارات التي تكشف تماسك العلاقة بين الزوجين ومدى تحمل الأبناء لظروف آبائهم الصعبة وعدم قدرتهم على الإيفاء بالتزاماتهم الأسرية.

القاهرة- أدى تراجع مستوى معيشة الكثير من الأسر المصرية إلى إجبارها على تغيير مسار تعليم أولادها من المدارس الخاصة والدولية إلى نظيرتها الحكومية التي تطلب مصروفات بسيطة نظير إلحاق الطلاب بها، مثل التجريبية المتميزة للغات، وهذه لا تحتاج من ولي الأمر سوى قرابة مئة دولار عن العام الدراسي وتقترب مناهجها وطرق التقييم فيها من المدارس الخاصة.

وأحدث غلاء الأسعار مع تدني الرواتب وفقدان البعض من أولياء الأمور لوظائفهم جراء الأزمة الاقتصادية الراهنة تغيرات في حياة أسر مصرية عديدة، وأصبح واضحا عجز هؤلاء عن الوفاء بالتزاماتهم تجاه تعليم أولادهم بالطريقة التي خططوا لها، ما دفع شريحة منهم وهي مجبرة إلى البحث عن بدائل تعليمية أقل تكلفة.

وتشهد المدارس الخاصة حاليا وقبل بدء العام الدراسي الجديد موجة من التحويلات، وأصبحت نظيرتها الحكومية مقصدا للأسر التي ضاقت بها السبل وعجزت عن دفع أقساط المصروفات المستحقة عليها، حتى أن البعض تراكمت عليهم الديون من السنة الدراسية المنتهية وأصبح الأولاد والبنات يواجهون الطرد من مدارسهم الخاصة.

محمد هاني: الأزمة المادية تصبح بالغة الصعوبة على الأسرة عندما تؤثر سلبا على مستقبل الأبناء التعليمي

ويقتصر التحويل بين المدراس الحكومية أو الخاصة والعكس على فترة الإجازة الصيفية، ومنذ فتح الباب أمام أولياء الأمور سارع الكثير منهم لإنهاء علاقته بالمدارس الخاصة، ولو تطلب الأمر دفع مبالغ مالية لوسطاء نظير الهروب من هذا العبء المادي إلى مؤسسات تعليمية حكومية لا تتشدد مع طلابها في مسألة المصروفات، بحكم أنها تستهدف الطبقتين البسيطة والمتوسطة.

وقبيل انتشار جائحة كورونا، كان حمدي (اسم مستعار) يعمل في شركة خاصة وتحول إلى عاطل بعدما قررت الشركة الاستغناء عن عدد كبير من موظفيها، ما جعله يعمل في أكثر من وظيفة ليتمكن من الاستمرار في تعليم أولاده بمدرستهم الخاصة، على الرغم من الأعباء المالية والنفسية والاجتماعية الواقعة عليه، فلديه ثلاثة من الأبناء في مراحل تعليمية مختلفة، يعتبرهم استثماره الوحيد في المستقبل.

وقال الأب لـ”العرب” إنه لم يعد قادرا على دفع مصروفات ابن واحد من الثلاثة بعد أن تراكمت عليه الديون وصار عاجزا عن الوفاء باحتياجات أسرته من مأكل ومشرب وملبس وإيجار منزل، ما دفعه إلى التفكير مع زوجته في إنهاء علاقة الأبناء بالتعليم الخاص وتغيير مسارهم إلى مدارس حكومية، وعليهم تحمل التأثير السلبي في صعوبة التحصيل الدراسي واستيعاب نتائج هذه النقلة الكبيرة.

ويخشى حمدي أن يندم على هذه الخطوة مستقبلا عندما يكون من الصعب على أولاده التأقلم مع البيئة التعليمية الجديدة بعد أن بدأوا في مدارس خاصة أثرت على طريقة تفكيرهم، فكل المواد العلمية كانت تدرس لهم بلغات أجنبية.

وتتعامل الكثير من المدارس الخاصة في مصر مع أولياء الأمور بمنطق الجباية بعدما تحولت رسالة عدد كبير منها من تربوية إلى تجارة رائجة، حيث كانت تستغل هروب الأهالي من إلحاق أولادهم بمؤسسات حكومية لترفع المصروفات وتفرض عليهم مبالغ مالية مضاعفة نظير الأنشطة المدرسية المتنوعة وسط عجز من وزارة التعليم على ضبط الأمور. ووصلت مصروفات المؤسسات التعليمية الخاصة إلى أرقام فلكية، بمتوسط يصل إلى ثمانية آلاف دولار، وتصر على أن يدفع أولياء الأمور تكاليف العام الدراسي الجديد قبل انطلاقه بشهور نظير احتفاظ الطلاب بأماكنهم، أو الموافقة على تحويلهم إلى مدارس حكومية كعقوبة لهم على التأخر في الدفع. والأكثر من ذلك أنها ترفع نسب الزيادة السنوية في المصروفات بما يتراوح بين 10 إلى 25 في المئة بحجة الوفاء بالتزاماتها.

وإذا اشتكى ولي الأمر من الجباية المفروضة عليه في المدرسة الخاصة ترد وزارة التعليم بأنها تتعامل وفق قوانين ولوائح وتتحرك بناء على وثائق ثبوتية تؤكد صحة الشكاوى مع أن معظم المدارس تطلب مبالغ مالية مضاعفة دون أن تقدم مقابلها مستندات تثبت قانونيتها، بحيث لا تكون أداة لمعاقبتها من جانب الوزارة حتى أصبح الآباء أضعف حلقة في “بيزنس” أو تجارة التعليم المصري.

◙ الكثير من المدارس الخاصة تتعامل مع أولياء الأمور بمنطق الجباية بعدما تحولت رسالة عدد كبير منها من تربوية إلى تجارة رائجة
الكثير من المدارس الخاصة تتعامل مع أولياء الأمور بمنطق الجباية بعدما تحولت رسالة عدد كبير منها من تربوية إلى تجارة رائجة

ويعترف بعض الأهالي الذين قرروا تحويل مسار تعليم أولادهم بأن أكبر معضلة واجهتهم تتعلق بالحالة النفسية لهم، حيث يدركون أنهم يودعون بيئة تعليمية راقية نشأوا فيها وكونوا صداقات قوية إلى أخرى حكومية تئن من الفوضى وتسيطر عليها العشوائية ويكاد الطالب لا يجد مقعدا ليجلس عليه من شدة التكدس.

وتصل كثافة الفصول في المدارس الحكومية إلى 80 طالبا في القاعة الواحدة، مع أن زملاءهم في نظيرتها الخاصة يجلسون بأريحية حيث لا تصل الكثافة إلى ثلث هذا الرقم، مع تعدد وسائل الرفاهية، والرقي في التعامل، ما يجعل الطالب الذي يودع هذه البيئة قد يصاب بالإحباط واليأس والعجز عن التأقلم مع ما ينتظره من مستقبل تعليمي بعد تدهور أحوال أسرته ماديا. ويؤدي عجز الأب عن توفير احتياجات أولاده التعليمية إلى صدامات كبيرة بين الزوجين، فالأم تكون مستعدة لتحمل كل صعوبات المعيشة مقابل أن ترى أولادها يتعلمون في بيئة راقية بحكم أنها الأكثر متابعة لما يحدث من تخبط في المنظومة التعليمية، لكن الأب لا يتحمل الضغوط الواقعة عليه، ويتأثر مزاج الكثير من الأسر وتتسلل إليها أزمات متعددة بسبب تعليم الأبناء.

ويرى متابعون للظاهرة أن تدهور الوضع المادي للأسرة بشكل مفاجئ أحد أصعب الاختبارات التي تكشف تماسك العلاقة بين الزوجين ومدى تحمل الأبناء لظروف الآباء، لكن تعامل أولياء الأمور مع أولادهم وقت الظروف المعيشية المفاجئة يتطلب حكمة وعقلانية حتى لا يصاب الأبناء بحالات نفسية سيئة تؤثر على علاقتهم بالأسرة.

المدارس الخاصة تشهد حاليا موجة من التحويلات، ونظيرتها الحكومية أصبحت مقصدا للأسر المتضررة أو ضعيفة الدخل

ورأى محمد هاني استشاري العلاقات الأسرية بالقاهرة أن الأزمة المادية تصبح بالغة الصعوبة على الأسرة عندما تؤثر سلبا على مستقبل الأبناء التعليمي، ويتطلب الأمر أن يصل التفاهم بين الزوجين إلى القمة لتجاوز هذه المرحلة، مع تربية الأبناء على مشاركة آبائهم في عبور هذا التحدي للتعود على تحمل المسؤولية من الصغر.

وقال لـ”العرب” إن الانعكاسات السلبية الأكبر تكون على الأسر التي تتعامل مع التعليم الخاص بمنطق الوجاهة الاجتماعية لا أكثر، وهنا يشعر الأبوان بانتكاسة، لكن العائلات التي تتعامل مع هذا النوع من التعليم كاستثمار في أولادها لمزيد من التفوق والتحصيل العلمي قد لا تتأثر كثيرا على المستوى النفسي، وليس صعبا على أولادها التأقلم مع بيئة تعليمية أقل.

وكلما تمسكت الأسرة بأن تربي أولادها على الاحتكاك بأبناء كل الفئات يكون من السهل عليها امتصاص الأزمات المادية، وهي رسالة بحتمية الموازنة بين الترفيه ووضع الأبناء تحت ضغط، بحيث لا تترنح الأسرة وتتأثر علاقات أفرادها ببعضهم وقت تبدل الظروف، مع تنشئة الصغار على أن التميز العلمي لا يرتبط بالمال.

17