ريم طرّاف فنانة تشكيلية تبحث في أثر السكينة والسكون

الأحمر كائن ينطق بما يخفيه صمت الطبيعة والحياة على الأرض.
الأربعاء 2022/06/08
الفن يعكس تمرّد الواقع

تتحول الطبيعة الصامتة إلى لوحات ناطقة تبوح بالأسرار التي لا تكتشفها سوى عين الفنان التشكيلي الذي يرى الرضا والغضب فيسقطهما على الواقع الإنساني، ويعيد تصويره في لوحات مكتظة بأسئلة وأجوبة وبشخوص تعيد أحيانا تكرير المآسي الراهنة، وأحيانا أخرى تتعرض إلى التفاصيل البسيطة للحياة.

الطبيعة الصامتة لم تكن يوما في لوحات الفنانين التشكيليين صامتة. فهي حتى في عزّ أيامها وأيام الفن الذي تناول دواخل المنازل وتفاصيل الممارسات المنزلية كالتنظيف والطهي، كما كان الحال في الفن الهولندي في القرن السابع عشر كانت الطبيعة الصامتة طبيعة ناطقة لأنها كانت تتكلم عن الحياة الأرضية بما فيها من ملذات أرضية وآفات البذخ والتخمة ومظاهر هشاشة حياة الإنسان ومرور العمر بسرعة والموت المحتوم.

وهي اليوم في لوحة ريم طرّاف الفنانة التشكيلية السورية، سيدة اللوحات والناطقة بما لم تكفّ الفنانة عن التعبير عنه شعوريا ولا شعوريا منذ 2011، سنة اندلاع الحرب على سوريا. وإن كانت لوحاتها في معرضها السابق كبيرة جدا في الحجم فهي اليوم حميمية صغيرة ولا تقل أهمية عن سابقاتها.

قدمت الفنانة التشكيلية السورية ريم طرّاف معرضا في صالة “ميسيون آرت” في بيروت حتى 4 من شهر يونيو الفائت. ضم المعرض 10 لوحات تحت عنوان “سكون”. وهي في مجملها لوحات تناولت موضوع الطبيعة الصامتة.

الأحمر يكشف عن أخاديده العميقة
الأحمر يكشف عن أخاديده العميقة

ومن اللوحات ما تجسَد فيها حبوب كرز قليلة في صحون بيضاء، ومنها ما حضرت فيها حزوز بطيخ في صحون خالية إلا منها.

ونذكر لوحة أخرى رسمت فيها الفنانة صحنا فارغا وعليه شوكة وسكين بوضعية تذكرّ بعقربيّ الساعة. غير أن الفنانة في هذه اللوحات وغيرها قد تكون رسمت طبيعة صامتة لاسيما عند النظر إليها للوهلة الأولى، ولكن الناظر لن يلبث إلا أن يتأكد بأن الفنانة لم تحد في هذه المجموعة الجديدة عما سردته في لوحاتها السابقة لاسيما تلك التجريدية التي غزاها اللون الأحمر.

وفي نبذة موجزة عن تلك اللوحات التي بقيت روحها حاضرة وبشدة في لوحات طرّاف الجديدة يمكن القول إنها كانت تنضح بأحمر حاضر ليس فقط كلون من الألوان، بل ككائن يكشف عن تسلخاته وأخاديده العميقة.

وقد قالت الفنانة يومها حول ذلك اللون الطاغي “أنا لم أختر هذا اللون كي يحضر هكذا في لوحاتي، بل هو اختارني”. وهو لون لم يتخل عن حضوره في لوحاتها الجديدة، بل تقلص وتكثف ليصبح كالجمر تحت أجفان العيون أو ليكون كبؤر صغيرة رقاقة بعض الشيء وفي أكثر من لوحة كمثل نقطة دم بدأت بالتخثر. جمرات تكاد أن تنطفئ وبؤر ندية أو مكامن رصاص تريد أن “تضمد” ذاتها، في تحولها إلى أشكال واهية ومُقنعة في آن واحد: حبوب فاكهة بسيطة تستريح في قعر صحون يفترض أنها بيضاء اللون، ولكنها متشققة ومتقشرة وتغشاها رمادية رماد ما غير معروفة أصوله.

في البيان الصحافي المرافق للمعرض تقول الفنانة “هل للساكن أثر وصدى؟ للطبيعة الصامتة دلالات فلسفية واجتماعية، إذا بالمعنى الفلسفي تأكيد على قيمة الموجودات وعلاقتها بالإنسان وهو الأثر والصدى الذي يتركه الساكن فينا من خلال الضوء والظلال”.

وتضيف “أما البعد الاجتماعي المسكون في الذاكرة، فهي الذكريات، عندما يرحل الآخرون يتركون آثرا في ذاكرتك، وتصبح أكثر وحدة وعزلة. ومن هنا أتناول تجربتي الجديدة في الطبيعة الساكنة للتعبير عن السكون وأثره النفسي. وذلك من خلال اختيار الألوان، إذ تذهب إلى التقشف والبساطة. كما هو تعبير عن الأثر الذي يتركه السكون بالعلاقة بيني وبين العمل الفني، إذ تصبح العلاقة روحية، ومن خلال هذه العلاقة يتم التعامل مع السطح والضوء والظل في عزلة المُحترف”.

لوحات تقفز نحو الأمل والحقيقة
لوحات تقفز نحو الأمل والحقيقة

هكذا تقدم الفنانة معرضها هذا: معرض عن الفقد، والسكون، والذاكرة، والبصر. ولوحاتها الحاضرة تسترسل في سرد فصول ذاكرة العناصر المرسومة من أشياء وحبوب فاكهة حتى تكاد أن تصبح شخوصا لها قصصها الشخصية وأحوالها النفسية.

وفي المعرض لوحتان طغى عليهما اللون الأحمر “من جديد” امتزج في إحداها التجريد والتشكيل. الأولى جسدت حزوزا من البطيخ الأحمر الغارق في خلفية حمراء ندية، وفي اللوحة الثانية ظهرت حزوز من البطيخ، وربما حبوب من نبات الزعرور إلى جانبه، على خلفية رمادية مستديرة لا هي صحن ولا هي كوكب، وخلف هذا الشكل الدائري حضرت مساحة رمادية تمتد حتى حدود اللوحة.

هذه اللوحة تحديدا إضافة إلى بضع لوحات غيرها أحالتنا إلى صورة فوتوغرافية شهيرة التقطت في مدينة حلب أيام الحرب. صورة ظهر فيها بائع كرز غطّى ملامحه وجسده رماد القصف وهو جالس أرضا من هول السقطة وإلى حبوب الكرز المرمية على الأرض التي وحدها احتفظت بشيء من لونها الأحمر.

وتحيلنا هذه اللوحة أيضا إلى صورة فوتوغرافية أخرى يظهر فيها كتيب مدرسي ملقى على الأرض تحت الدمار وعنوانه “الضاد” ومن خضم الرماد يظهر شيء من لون الكتاب الأحمر وبقعة دم مهدور إلى جانبه.

أليس من الجرأة جعل اللون الأحمر الذي يومض في أواسط العديد من لوحاتها الجديدة عنوانا للسكون؟ وهل نفع فعلا فعل التأطير له في صحون تصدعت من طاقته المُكثفة والمنضبطة إلى أجل مسمى؟

يبقى المؤكد أن الفنانة استطاعت في لوحاتها تلك أن تجمع التناقضات في فضاء لوحة واحدة كما تشمل الحياة كل ذلك وأكثر. أطلقت الفنانة على معرضها هذا عنوان “سكون” وهو سكون لا شك فيه، ولكنه سكون مُلتبس وشائك ونكاد نشتم منه رائحة بودرة الكلس ورماد الأيام المحترقة وهو أيضا محاولة بصرية جدية في إقامة علاقة مع الحياة “العادية “كما هي حبوب الكرز في صحن أبيض. إنها قفزة ناحية الأمل وناحية الحياة وإن تراكمت عليها جبال من الرماد.

وتجدر الإشارة إلى أن ريم طرّاف المولودة في حمص عام 1974، تخرّجت من كلية الفنون الجميلة في دمشق مصمّمة غرافيك، قبل أن تنال درجة الماجستير عام 2000.

وللفنانة تجربة واسعة في مجال التصميم الغرافيكي، ورسوم الأطفال، والبرامج التعليمية، وقد شاركت في معارض جماعية وفردية في سوريا وكندا والولايات المتحدة ولبنان والإمارات العربية المتحدة وغيرها. وأصبحت متفرغة لعملها الفني منذ سنة 2016.

☚ الفنانة استطاعت في لوحاتها تلك أن تجمع التناقضات في فضاء لوحة واحدة كما تشمل الحياة كل ذلك وأكثر

 

14