الفن تصريح عن التجارب والحرب والسنين في معرض لبناني جماعي

صالة "جانين ربيز" تستضيف الصدع اللبناني حيث الوقت مُعلق.
الجمعة 2022/06/03
مشاهد لا تنسى من بيروت

تمثل المعارض الجماعية التي تشترك في الثيمة العامة مساحة للتعرّف على أساليب الفنانين التشكيليين ونظرة كل واحد منهم للواقع من حوله، وإعادة تجسيده للقضايا الكبرى والمواضيع والأحداث المصيرية. وهذا ما يلمسه الزائر للمعرض الجماعي في صالة “جانين ربيز” الذي يدور كله في فلك بيروت المدينة التي تحافظ على جمالها رغم الجروح التي لا تندمل.

افتتحت صالة “جانين ربيز” في بيروت معرضا جماعيا مطلع يونيو الحالي يضم أعمالا لسبعة فنانين مختلفين بأساليبهم الفنية، وهم الفنان جوزيف حرب والفنانة أديلتا اصطفان والفنان ألان فاسويان والفنان أحمد غدار والفنانة إليسا رعد والفنانة كريستين كتّانة والفنانة مهى يمين. ويختصر المعرض ما قُدم في الصالة من ناحية شعرية الأعمال مضمونا وهيئة. وسيستمر حتى آخر شهر يونيو.

وغالبا ما تكون المعارض الجماعية، لاسيما التي تقدم في نهاية موسم العرض الفني، عبارة عن تقديم لفنانين ناشئين يعرضون لأول مرة عبر مشاركتهم بعمل واحد. وفي أحيان أخرى يكون المعرض أشبه بخلاصة لما قدمته الصالة خلال السنة بأكملها من نشاط فني متنوع. غير أن ما في هذا المعرض الذي تقدمه صالة “جانين ربيز” العريقة في عالم العرض الفني لا ينتمي إلى هكذا معارض.

فالمتطلع إلى الأعمال التي تفاوتت ما بين تجهيز فيديو ولوحات وتجهيز فني ومنحوتات سيعثر على عالم عجائبي لناحية خروجه عن الواقعي وهو في صلب جحيمه. جحيم هو الآخر ليس بعادي وليس مقرونا بحادثة دون أخرى، بل هو شامل يشمل حالة البشر في بلد اسمه لبنان.

ولن يجد الزائر في هذا المعرض أيّ ألوان حارة، بل صقيع إلى أبعد حدّ. أما هذا الصقيع الجحيميّ فهو نفسيّ بالدرجة الأولى وجماعيّ بالدرجة الثانية وخارج بكل جراحه الباردة، الهادئة والمرعبة من شظايا حوادث متراكمة ومتجانسة بعضها أنتج بعضها الآخر إلى حدّ بات من الصعب فصلها عن بعضها بعضا.

الفن لغة الواقع

◙ قدم تستمد قوتها من البلد الصامد
◙ قدم تستمد قوتها من البلد الصامد

في كل الدول تحدث الحروب. وفي كل الدول يسرح الفساد وبعض الدول هي محتلة وبعضها الآخر تخنقه شتى أنواع الأزمات. أما في لبنان، فأضف على كل ذلك درجة عالية من السوريالية والعبثية تمخضت عن منطق سائد أفضل من عبّر عنه هو الفن.

ويجيء البيان الصحافي المرافق للمعرض ناضحا بالأفكار المشرذمة والتمزقات التي لم تصنعها الانفجارات المدوية بقدر ما صنعتها حدة الشفرات وكيد بطئها الإجرامي.

ومما ورد في البيان “نباح كلاب مُؤنسنة (من إنسان)، قطع من أجساد خرجت عن إنسانيتها، وكلمات من خطوط متوترة ومبهمة، وضروب من ألعاب مُفرغة من معانيها أصولها وأهدافها، اجتمعت في ضيق صدع حيث الوقت مشوّه: كل مفاصل الحياة أضحت غريبة وخارجة عن المألوف حين تكون الفوضى هي سيدة الموقف وساحقة للقدرة على ابتكار فن خارج منطق العبثية”.

غالبا ما يكون الوصف الشعري مبالغا فيه، ولكن ليس في هذه الحالة. ولا نعلم إن كانت محاولة اختصار سيرة لبنان الحديث كفيلة بأن تبرّر ما هو معروض في الصالة وتشرعنه وتفسّره. ولكنها محاولة بكل تأكيد ضرورية لفهم الأعمال في انفصالها عن بعضها بعضا من ناحية الأسلوب والمضمون واشتراكها في نفس الوقت بتشكيل نص وسردية متجانسة شديدة الواقعية وهي في أوج غرابتها.

مرت أكثر من 30 سنة على انتهاء الحرب اللبنانية، على الأقل من الناحية الرسمية. ثم مرت بضعة سنوات شعر فيها اللبنانيون بأنهم أمام مستقبل جديد وحياة جديدة غير مدركين أن التخدير العام الذي طال ذاكرتهم، والعفو العام الذي غسل المجرمين من جرائمهم والذي نتج عمّا يمكن أن نسميّه إبرام صك سذج عن انتهاء الحرب سيكون سببا مباشرا ليقظة وحوش الحرب من جديد. وحوش تكاثرت على مدى السنين القليلة التي تلت فصارت أكثر شراسة وحنكة.

الأعمال الفنية تبدو وكأنها هذيان، شديدة الواقعية ومفهومة بكل ما أرادت أن تخرجه أمام الناظر إليها

ثم جاء ما سمّي بالثورة اللبنانية التي شكلت انتفاضة وعي شملت كل شرائح المجتمع العمرية والاجتماعية. بعد ذلك تتالت الكوارث بشتى أنواعها، كثرت الصدمات وتبعثرت الأحلام ثم ترمّمت عشرات المرات لتهلك على مذبح الفساد والإجرام الذي مد جذوره عميقا وهو اليوم يتطلب الكثير من القوة والجرأة والمثابرة لاجتثاثه من أصوله. ولكن إلى أن يحصل ذلك نتأمل في الأعمال الفنية التي تبدو وكأنها هذيان، ولكن كما ذكرنا آنفا شديدة الواقعية ومفهومة بكل ما أرادت أو استطاعت أن تخرجه أمام الناظر إليها.

من الفنانين المشاركين في هذا المعرض نذكر الفنان جوزيف حرب الذي يقدم منحوتة من البلاستر هي لقدم بشرية قائمة بحد ذاتها ومسلوخة عن قدرتها الطبيعة في المشي وفي أن تكون تابعة للبشري الذي فقدها أو للبشري الذي لم يكن في الأصل، بحساب الفنان.

أما الفنانة كريستين كتانة فتقدم فيلما تحريكيا وأعمال طباعة فنية تلعب فيها على حرف الباء الذي يشير إلى فكرة “البيت” وحدوده ووجوهه المتعددة وخضوعه إلى سلسلة من الانتهاكات.

لكل فنان نظرته

◙ لنبدأ من جديد بذاكرة بيضاء
◙ لنبدأ من جديد بذاكرة بيضاء

في مكان آخر من الصالة تعرض الفنانة إليسا رعد 3 لوحات زيتية و12 صورة فوتوغرافية. وهي صور ذاتية تتحول وتتبدل وتبقى رمادية بالمعنى أكثر مما هي في هيئتها، هيئتها البادية في مرآة مفتوحة على بصرية واحدة وهي العدم، أو الموت بكل أشكاله.

أما الفنان أحمد غدّار فيقدم مجموعة أعمال بعنوان “تضخم” ويطال الأزمة الاقتصادية المستفحلة التي بقدر ما هي مرتبطة بعلمية الأرقام، هي بالغة العبثية والزئبقية.

بدورها تقدم الفنانة أديلتا اصطفان مجموعة أعمال بالغة الشعرية لكتابات دقيقة ومرصوصة بشكل بليغ على صفحات بيضاء معلقة على أحد جدران الصالة بعنوان “كان يعلم” في الإشارة إلى خلفية سياسية لانفجار مرفأ بيروت سنة 2020 ومسؤولية شخصية سياسية محددة التي يفترض بشكل قاطع أنها كانت تعلم بوجود نيترات الأمونيوم الذي فجر بيروت.

المتطلع إلى الأعمال التي تنوعت سيعثر على عالم عجائبي لناحية خروجه عن الواقعي وهو في صلب جحيمه

ويعرض الفنان ألان فاسويان منحوتات حركية وتجهيزا فنيا تفاعليا لعدة كلاب تحيل إلى مجزرة قتل الكلاب الشاردة التي حدثت حديثا في لبنان. وهي مجزرة محددة تحيل إلى مجازر أخرى حصلت ولا تزال تحصل كل يوم في لبنان.

أما الفنانة مهى يمين فتقدم شريط فيديو لـ5 أشخاص يلعبون الورق، اللعبة التي يلعبها اللبنانيون منذ سنين عديدة غير أنه في الفيديو ورق أبيض. وبالرغم من ذلك تستمر هذه اللعبة لساعات متواصلة انغمس فيها اللاعبون بأحاديث متنوعة في قمة العبثية.

ويسيل الزمن في الصالة في قلب الصدع العبثي وكأنه صمغ غير لاصق، أو كأنه سمّ له مفعول شديد البطء. يسيل أمام أعيننا ويتمظهر مُخدرا وجحيميا في آن واحد في الأعمال المنشورة في قلب الصالة أو كما يفصح البيان الصحافي المرافق للمعرض أنه “من قلب المذبحة تعلق الوقت، العالم بأسره بات مُعلقا. وأصبح الفن في خضمه تصريحا عن التجارب والمعاينات التي راكمتها السنين التي أحدثت ثقوبا في جدران الذاكرة وفي ثنايا الوقت. ليكن عبثا. ليكن الفن تظهيرا لهذا العبث على هذه الأرض التي تختفي شيئا فشيئا، على أجسادنا التافهة التي تذوب في حمم التجارب”.

14