بيروت في لوحات لمياء اللبان احتفال شخصي لا ينضب

تحمل لوحات الفنانة اللبنانية لمياء اللبان ذاكرتها الخاصة التي تجمع بين ذاكرة صاحبتها وتلك الجماعية، فتقدم بيروت بأفراحها ومآسيها وتقف أمام النسيان كي لا يمحو من عقول البيروتيين ملامح بلادهم ومشاعرهم المتفاعلة معها.
خلال هذا الشهر المشحون سياسيا من تاريخ لبنان الحديث وما يشمل من أجواء انتخابية تسبق وترافق وستلي حتما فترة ما بعد الانتخابات، يسرح النظر في استراحة ملونة تقدمها الفنانة التشكيلية اللبنانية – البيروتية لمياء اللبان وهي أشبه بعرس متواصل ملؤه الطمأنينة والقناعة بأن بيروت لن يُسلب قرارها ولن يُطفأ ضوء مصابيحها مهما اشتدت الأزمات.
وتستمر الفنانة اللبان منذ التسعينات من القرن الماضي في المشاركة بمعارض جماعية وفي إقامة معارض فردية وآخرها كان “معرض تاريخ المرأة” الافتراضي خلال شهر مارس الماضي وقبله معرض افتراضي آخر حمل عنوان “الليلة المُنجّمة”.
وواكبت الفنانة نشاطها الفني هذا بنشر صور عديدة عن لوحاتها الجديدة والقديمة على صفحة الفيسبوك الخاصة بها لترفقها حينا بنصوص قصيرة وحينا آخر بسرديات طويلة لا تصف الأعمال بقدر ما تلقي الضوء على المحركات الباطنية التي جعلت منها لوحات لا تنضب ولا تجفّ ألوانها.

لوحات التشكيلية اللبنانية لمياء اللبان تطل على ذات الفنانة وما يختلج بها من مشاعر وذكريات
أما من ناحية أخرى وعلى الرغم من أنه من “المُزعج”، إذا صح التعبير، أن يقارن كاتب في المجال التشكيلي بين فنان تشكيلي وآخر، سنتغاضى عن ذلك للضرورة لنقول إن لوحات الفنان التشكيلي البيروتي أيضا طارق بحصلي مميزة على الرغم من كونها تظهر مشاهد واضحة المعالم لشوارع بيروتية بناسها المنشغلين بالنزهات أو مجرد العبور من رصيف إلى آخر. ولا يمكن اعتبارها لوحات سياحية فولكلورية كتلك المُملة التي تستنسخ ذاتها والتي لا علاقة لها بما يعني أن تعيش، وكيف تكون، وكيف تمضي أيامك وعمرك في بيروت.
كذلك هي لوحات الفنانة اللبان، لوحات لا تهجس فقط بمظاهر مدينة بيروت ومشاهدها وكل فصولها العاشقة للحياة والمحبوبة من أهلها، بل هي لوحات تطل على ذات الفنانة وما يختلج بها من مشاعر وذكريات. ومن تلك الأعمال ما هو خاص بتاريخ الفنانة الشخصي ومنها ما هو احتفال بالذاكرة الجماعية البيروتية، احتفال يسعى بطريقة فنية غير مباشرة للحفاظ على أبهى ما عرفت بيروت وما ستظل تعرفه وتُعرف به على السواء إن لم يحل نسيان تقف ضده الفنانة بكل جوارحها.
واللافت في لوحات الفنانة أنها حتى حينما تناولت مواقف مأساوية من حياة بيروت ونذكر منها على سبيل المثال نتائج احتكار دواء الأمراض المزمنة والخطيرة كالسرطان، وانفجار مرفأ بيروت سنة 2020 ووباء كورونا، لم تتناولها الفنانة من خلال استخدامها الألوان القاتمة.
ولم ترسم الفنانة بيروت يوما إلا وهي تخاطب المُشاهد بألوان مشرقة تؤكد دوما أن اللون بمنطقه الباهر دوما سيظل الناطق باسم بيروت وسيبقى الأقوى من أي حزن أو لحظة قهر. وآخر صورة نشرتها حتى الآن على صفحة الفيسبوك الخاصة بها هي بعنوان “شجرة العطاء”. لوحة تكاد تنطق بكل ما اشتعل قلب الفنانة من حب مُتشعب لا ينضب إلى لبنان “الحقيقي” بشكل عام وإلى بيروت، مدينتها، بشكل خاص.
وأرفقت الفنانة لوحتها تلك بنص طويل مُنقشع لا تكلّف فيه كألوانها ورقراق لأنه صادق كسهولة التعبير في أعمالها تسرد فيه قصة جدها وزرعه في حديقة المنزل شجرة أكدنيا أصبحت مع مرور الوقت رمزا لتوطيد العلاقة بين أفراد العائلة.
ونختار من هذا النص هذه المقتطفات “الشجرة المفضّلة لدي والتي كانت تتوسّط ‘الجنينة’ فهي شجرة الأكدنيا الموسمية، فننتظر ثمارها من سنة إلى سنة. كان ظلها يحجب أشعة الشمس القاسية عن البركة الصغيرة التي كنّا نستخدمها في فصل الصيف كمنطقة دفقة للمرح. كبرت أغصان تلك الشجرة وعلت حتى أنها كانت تصل إلى الطابق الثاني من المبنى فنتسارع بمد العصي من الشرفات لنشدّ الأغصان ونقطف الثمرات قبل أن تأكلها الوطاويط عند المغيب..”.
وتستطرد الفنانة قائلة حول مناسبة لوحتها المشغولة بمادة الأكريليك “تزهر ثمرة الأكدنيا في فصل الربيع. أحبّها بعضنا وهي خضراء بطعم الحامض مع رشة من الملح. أما عندما كان يتأرجح لونها بين البرتقالي والأصفر، ويصبح ملمسها من الخارج مخمليا، فكان هذا دليلً على أنها نضجت وأصبح مذاقها حلوا. كان موسم قطاف تلك الشجرة مناسبة لجمع شمل العائلة في الحديقة”.
وتتابع “في صباح ذات يوم أخذ جدّي يجمع ثمرة الأكدنيا مع بعض من أبنائه وأحفاده، فشعر بألم طفيف في صدره، ومن ثمّ ضيقا في التنفس.. اختلّ توازنه، فأمسك بجذع العريشة، وسقط على الأرض متوفيا إثر سكتة قلبية. الدموع التي ذرفت لرحيله كثيرة والحزن كان كبيرا. أما عصفور البلبل الوفي الموجود في اللوحة، والذي كان يدلّل ويحظى باهتمام كبير من جانب جدّي، توفي بعد بضعة أيام لشدة حزنه على رحيل من كان يحنّ عليه…”.
ليس هذا هو النص الوحيد ولا اللوحة الوحيدة التي قدمتها الفنانة حيث يتشارك فيها حس الفرح بالحزن. وليست هي اللوحة الوحيدة من بين أعمالها الفنية التي تؤكد أنه كلما اشتد الحب كلما ازدادت قسوة الفقد التي لا تمنع اشتداده، بل تدعوه إلى عدم التخلي عن المحاولة في تخليد الفرح الذي كان ليس كحميمية غادرت ونحنّ إليها من وقت إلى آخر، بل كشروق يمكن له أن ينبثق من جديد يوما ما.
لوحات الفنانة تدعو مُشاهدها إلى الحب وهي في غمرة تظهيرها لألم الفقد حين يحلّ. ويمكن القول “عند التأمل في لوحاتها أنني، وربما كالعديد من البيروتيين مثلي، ننحاز إلى هذا الحزن وإلى هذا ‘النمط’ من الحب وإلى هذا الفرح المُهدد دوما ربما لأننا نشأنا عليه، وعرفنا طعم الفرح في طفولتنا وعرفنا لاحقا كيف يكون مهددا وعطره عطر الياسمين في ليلة شديدة الحلكة لولا ضوء قمرها”.