السوري أنس البريحي يوغل في حقول النوم وبواباته المفتوحة على الأحلام

بينما يصور الفنانون الواقع بأبعاده الخيالية التي تزينها لمساتهم الخاصة، يختار الفنان التشكيلي السوري أنس البريحي النوم وتفاصيله عالما للوحاته يبحث فيه عن مسحة السلام والطمأنينة والأمنيات الجميلة التي غابت عن الواقع المعيش للسوريين واللبنانيين على حدّ السواء.
تقدم صالة “تانيت” اللبنانية في صالتها الألمانية في مدينة ميونخ معرضا للفنان التشكيلي السوري أنس البريحي تحت عنوان “الحالم”. مجموعة لوحات مختلفة الأحجام مشغولة بالألوان الزيتية زاخرة بالألوان النابضة وهي في عزّ تمثيلها لحالات الاستسلام للنوم.
في زمن يبتعد فيه الكثير من الفنانين عن الفن الغنائي – الانطباعي – التعبيري لصالح الفن المفاهيمي وفن الديجيتال يقدم الفنان التشكيلي السوري أنس البريحي معرضا نابضا بالمعاصرة ومن صلب التشكيل التعبيري. يبدو المعرض الذي يحمل عنوان “الحالم”، لكل من تابع تطور عمل هذا الفنان على مدار السنوات القليلة الماضية التي تلت تخرّجه في الجامعة وانطلاقه إلى عالم الفن التشكيلي، استكمالا، لا بل استطرادا لمعرض سابق قدمه في صالة أجيال في بيروت وحمل عنوان “صائد الأحلام”.
وقد قدم هذا المعرض، وباختصار شديد، عالما تنساب دقائقه ببطء ويحل فيه قلق خافت الصوت رائحته كرائحة الشمع المُضاء والمُحترق ببطء، قلق رصين ومُثقل بأنفاس النائمين ومتدثر بألوان صارخة هي ألوان اللُحف التي احتضنت النائمين، ولو لساعات قليلة كما يحتضن الرحم الجنين السابح فيما بين أن يكون أو لا يكون، قبل أن يُلفظ بعنف إلى الخارج الطاحن، فيكون غريبا وسط الغرباء.
وقال يومها الفنان عن معرضه هذا “هو لحاف للوهلة الأولى، ذكريات جدتنا وبيتنا العتيق.. أيادي أناس بسطاء فكرت في هندسته وتصميمه. عرضت جدتي وجدتك إنجازها الفني في العلّية وفوق السرير، يومها لم يصفق لها إلاّ منْ ذاق من دفئه، اللحاف هو المعنى الظاهري الملموس للغطاء، أما ما أشعر به فهو يقلع بالعمق لن تساعدني لغتاي العربية والتشكيلية في التعبير عنه”.
أما معرضه الجديد هذا فلم يعد معنيا “باصطياد” الأحلام لأنها حلتّ بردا وسلاما وعشّشت في أجساد النائمين الذين رسمهم الفنان في غمرة اللحف التي تحلقت والتفت وامتدت فوق أجسادهم كما تمتد حقول أشجار الزيتون والنباتات العطرية العابقة بألوان الطبيعة. وإن رسم الكثير من الفنانين النوم والنائمين في أجواء لونية هادئة فقد زخرت لوحات الفنان بأكثر الألوان صخبا ودفئا ولم تحد في ذلك البتة عن حالات الاستسلام الهانئ إلى النوم كعالم يضج بالذكريات الجميلة ويعبق بسلام لا يشبه أيّ شيء في أرض الواقع.
ويكاد المرء وهو ينظر إلى لوحاته تلك يشعر أن ما من شيء سيء وما من مكروه يمكن أن يصيب هؤلاء الملتحفين بألوان الحلم والذكريات البعيدة المرتبطة بعالم الطفولة والمراهقة حيث كان يكفي أن تردّ عليك مساء اللحاف العابق برائحة الصابون كي تقصي كل العالم المحيط بما يحمل من تهديد وضجيج.
وسيلاحظ زائر المعرض أن اللوحات التي رسمها الفنان سنة 2022 تميل إلى التجريدية، تحديدا في كيفية رسم الفنان للأغطية التي تغمر أجساد النائمين بوجوههم الهادئة والملونة براحة لا لبس فيها.
ويقدّم الفنان معرضه هذا قائلا “أنا المأخوذُ بالوحدة مازلت أستيقظ ليلا لأسمع مقطعاً من صوت أم كلثوم وأعود إلى السرير فأتشبث بوسائد ملونة وكل ما حولي من كتب.. سریري عالمٌ مصغرٌ من الأحلام فيه أسرج الخيول وأمتطي أقواها وأهرول خلف السحب، وألمس وجوهاً كثیرة تشكلت فیها”.
ويستطرد أنس البريحي قائلا “أخربط الشكل كما يحلو لي وأفرح بضوء خفيف یدخل عليّ كالشهب.. أتثاءب كثيرا، لا بد أن أنام فالنوم استسلامي الوحيد الذي أعطیهِ نفسي وأسلمهُ كل الذكريات والأحلام، أشاركهُ كل الصور والأغاني. كل التفاصيل أمنحها دون تردد.. أنا القائد لوقتي يؤرقني أنه دوما أسرعُ مني.. يسبقني مهما وثبت في البراري..”.
وفي محاولة لسبر أغوار هؤلاء الذين تأملهم ورسمهم الفنان يخاطب ذاته قائلا “ناموا ربما لأن المدینة حزينة جداً وربماً لأنهم امتلأوا بالحب ناموا في البراري حیث السكون الرقیق وناموا على الأسطح وفي الشوارع ناموا في مكان ما، لا اسمَ لهم ولا حتى حدود، ناموا محاطين بكل ھذه النغمات اللونية سبحوا في الأحلام الواسعة، فالأرض ضيقة بحدودها”.
اللافت عند الفنان هو تحدثه عن حبه للنوم ولجوئه إليه ليس هربا بقدر ما هو رغبة في شحن الذات بطاقة عاطفية وروحية تساعده على تلقف واقعية الأيام الفجة وهو في نفس الوقت يبقى يقظا يتأمل النائمين أو يتخايلهم وهم في كنفه.
ويذكرنا موقف الفنان هذا بالمثل القائل بأنه “لا يمكنك أكل الحلوى والاحتفاظ بها على السواء”. وهو ما يستطيع واستطاع الفنان فعله في لوحاته تلك.
ويؤكد لنا أنس البريحي قدرته على مجاراة اليقظة المتأملة والنوم العميق في الوقت ذاته حين يقول في البيان الصحافي التابع للمعرض “أنا طفتُ في عالم الحلم هذا. رافقوني برحلتي الحالمة رحلة لون تشكَلَ في ضوء الوجود، فصار لوحة زيتية. ما ترونهُ أمامكم هو روحي الحالمة تُشكّلُ على القماش لحظة سكينة برية لإنسان بلا هوی ولا انتماء وینتمي فقط للأرض من مشرقها حتى مغربها”.
يذكر أن الفنان البريحي مولود في السويداء السورية سنة 1991، ودرس الفنون في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق قبل أن يتوجه إلى دراسة الماجستير بالجامعة اللبنانية في حقل الفن والدعم النفسي والاجتماعي ويستقر في لبنان مقيما في مرسمه.
شارك في معارض جماعية كثيرة داخل سوريا ولبنان وخارجهما ونذكر مشاركاته في البحرين وبريطانيا والكويت ونيويورك وواشنطن وباريس، وله معارض فردية وهي “منال” و”أمنا الأرض” و”صائد الأحلام”.