اللبنانية زينة عاصي تقدم من لندن تحية إلى منجم منهوب

مزيج بين الخيال والواقع في عوالم بيروت الشائكة.
الجمعة 2022/04/01
بيروت مدينة الصراعات

تنحاز التشكيلية زينة عاصي إلى بيروت منذ احترافها الفن التشكيلي، شعارها في ذلك أن المكان امتداد للذات، لذلك جعلت من ذاتها الفنية نبضا للشارع ونزقه، فهي ترسم وفق معايير منهجية محددة مسبقا لا وفق مزاج أكاديمي ولا تتقيد بتقنية واحدة في الرسم، محاولة سبر أغوار العلاقة بين الإنسان ومحيطه وحالة الصراع الدائم بينهما والذي يتأرجح ما بين الانتماء ومحاولات التحرر.

قدمت الفنانة التشكيلية اللبنانية زينة عاصي منذ بضعة أيام معرضا جديدا في لندن بصالة “تانيت” اللبنانية. حمل المعرض عنوان “تحية إلى منجم”. وكما في معارضها السابقة لم تخرج الفنانة عن موضوع مدينة بيروت الذي شغلها في جميع ما انتجت من رسومات ولوحات وتجهيز فيديو.

وغاص معرض “تحية إلى منجم” من جديد في عوالم مدينة بيروت الشائكة، حيث نسجت الفنانة عاصي مشاهد اشترك فيها الخيال والواقع في إرساء أجواء مختلفة وأحيانا شديدة التناقض ظهر من خلالها “إرهاق” المدينة، إذا صحّ التعبير، أمرا عاديا ومكرسا.

وذكر النص المرافق للمعرض أن عالم الفنانة استعار “من الرمزية والسوريالية أجواءه ليرسي نصا وردت فيه كل تجارب زينة عاصي الفنية رسما وتجهيزا..”.

وذكر النص أن انفجار مرفأ بيروت الذي وقع في الرابع من أغسطس سنة 2020، وما ترتب عنه من دمار في النفوس وفي الحجارة على حدّ السواء كان له التأثير الأكبر في تكوين معرض الفنانة الحالي. أما عاصي فقد أوضحت أن عملها الفني بشكل عام هو فعل تراكميّ يرتكز على التجريب الفني بغية سبر أغوار مفهوم المدينة المعاصرة لاسيما العربية وأثرها في نفس وتصرفات أهلها. وبيروت مكثف عن تلك العواصم نظرا للتعددية التاريخية والدينية والاجتماعية فيها.

الإنسان بدا مصهورا بمدينته منسحقا بين طبقاتها المتراكمة والمرصوصة على بعضها البعض رصا هائلا

وفي ما يتعلق بظروف إنجاز معرضها الأخير، قالت الفنانة “بعد الانفجار شعرت بأن مرحلة جديدة قد بدأت وعلي أن أعيد النظر في المدينة التي رسمتها حتى الآن وأن أعيد تشييد مدينتي بيروت من خلال المتغيرات الهائلة التي صنعها الانفجار..”.

ولم تغب في معرض عاصي الجديد ملامح الفوضى اللصيقة بمدينة مرصودة على المجهول. ولكن من خلال ذكر معرضين سابقين ومفصليين لها وهما معرض سنة 2018 ومعرض 2020 سنتمكن من القبض على التبدل الذي طرأ على خيال الفنانة اليوم وفي قدرتها على تشكيل ذات المدينة، ولكن من خلال تحولات جمة لازالت بالرغم من فداحتها تشير إليها وليس لأي مدينة غيرها.

أولا، وفي العودة الموجزة إلى معرضها سنة 2018 نذكر أن هاجس الفنانة تمحور حول مدينة درامية تنطق بأشكال الحياة المعاصرة المفتقرة إلى الحميمية. كما أشبعت زينة المدينة بمآذن الجوامع وببعض الأشجار الناجية من الباطون الزاحف إلى أضيق الأزقة، ورصعتها بأجراس الكنائس واللافتات الإعلانية، والدعائية، ولواقط الدش، والإنترنت، إلى جانب الحجر والباطون.

وتحدثت الفنانة عن أهل مدينة بيروت فرسمتهم شخوصا مُصغرة ونحيلة في معظمها، تقرأ الكتب والصحف وهي تنفث دخان سجائرها المُختلطة بالدخان المُلوث والمُتصاعد من مداخن المصانع.

أما معرضها المفصليّ الثاني فكان سنة 2020 وعنونته بـ”هذا هو الإنسان”. وبرز في هذا المعرض، وكما يشير العنوان، أثر الأزمات والفقر والحروب والتهجير والمنفى محفورا في كاهل إنسان المدينة الذي أظهرته عاصي حمّالا لوجوه المدينة حتى باتت بيروت هي القابعة فيه وليس العكس. وجاءت مجموعة اللوحات التي عنونتها بـ”الذباب على الجدار” مأساوية – كفكاوية تحول فيها البشر إلى حشرات لا قيمة لوجودهم ولا لموتهم.

عوالم متشابكة
عوالم متشابكة

كل تلك الأجواء التي وصفتها عاصي بتفاصيل وتداعيات تشابكت على سطوح لوحاتها في المعرضين المذكورين آنفا، تحللت كالمياه المكدرة المُحملة بأثار وبقايا ملوثة وشظايا صدأة في أجواء لوحاتها الجديدة. انقبضت التفاصيل على بعضها البعض وتكثّفت الخطوط وهيئات المنازل والشرفات والبنى التحتية التي شاهدناها سابقا وتحول الوجود الإنساني إلى الكثير من الشبحية إذ تحلل هو الآخر، هو وسجائره ولقاءاته الهشة مع الآخرين حتى كاد أن يكون مجرد ترميز إلى أهل مدينة سابقين تقلصوا حتى باتوا جزءا من الأحجار والمعادن المرصوصة.

وفي معارضها السابقة كان الإنسان كيانا منفصلا عن مدينته المقيم فيها بالرغم من ارتباطه الوثيق بها لدرجة أن العديد من أطرافه كانت شبه مُتصلة بمباني مدينة شيدتها الفنانة دائما على حافة هاوية ما غير مرئية، ولكن حضورها طاغ. أما اليوم فالإنسان بدا مصهورا بمدينته، ولا نقصد بالمعنى الإيجابي للكلمة، إنما بالمعنى السلبي، أي أنه بدا منسحقا بين طبقاتها المتراكمة والمرصوصة على بعضها البعض رصا هائلا.

وهنا تماما تذكر لوحاتها وبشكل كبير بالبؤر التي تُجمع فيها السيارات المحطمة قبل وبعد أن يتمّ ضغطها وتحويلها إلى مجسمات معدنية تفضح طبقاتها وجود تفاصيل مواد ومكونات غير متجانسة وغير معدنية.

زينة عاصي تتفنن في معرض “تحية إلى منجم” بإعطاء مجموعة دون أخرى من اللوحات صبغة لونية باهتة واحدة
زينة عاصي تتفنن في معرض "تحية إلى منجم" بإعطاء مجموعة دون أخرى من اللوحات صبغة لونية باهتة واحدة

وتتفنن عاصي في معرض “تحية إلى منجم” بإعطاء مجموعة دون أخرى من اللوحات صبغة لونية باهتة واحدة. نجد على سبيل المثال تلك التي طغى عليها لون الأخضر العفن وتلك التي لوحها أصفر سقيم ومجموعة أخرى من اللوحات تميزت بزرقة هي في أقصى درجات برودتها.

أما هذا “المنجم” الذي تتغنى به الفنانة فهو أشبه برثاء مدينة تهالكت صفائحها فوق بعضها البعض ولم يبق لها سوى أن تلفظ رجاء سورياليا تصاعديا قد يقيمها من كبوتها لتعود على الأقل كما كانت قبل أن تشتد الأزمات وتسوّد الآفاق بعيون أهلها.

ويُذكر أن الفنانة زينة عاصي من مواليد 1974 تعيش ما بين بيروت ولندن. تلقت دراستها في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة. عملت في مجال الإعلان وتدريس الفن في جامعات مختلفة.

وللفنانة مشاركات فنية كثيرة في لبنان وخارجه. كما لها أكثر من عشرة معارض فردية نذكر منها “ضفاف مدينتي” و”تأطير مدينتي” و”طبيعة صامتة” و”سيتيفيليا” و”ساحة عامة” و”قليلا من بيروت”.

14