السوري محمد عمران يطلق سراح شخوصه نحو الضوضاء

بعد أن تكونت تجربته التشكيلية حول الرجل الذي حضر في كل لوحاته ومعارضه السابقة ببعد سياسي واجتماعي، اختار الفنان التشكيلي السوري محمد عمران العمل على الثيمة نفسها، لكن هذه المرة ستكون من منظور بحثي يمازج بين الألوان ويظهر مدى انشغاله بالجانب التشكيلي البحت.
افتتحت صالة “دار الفنون” الكائنة في الكويت، وهي صالة معدة بشكل تام للعرض الفني المعاصر، وذلك في الرابع عشر مارس الحالي معرضا فرديا للفنان التشكيلي السوري محمد عمران تحت عنوان “كائنات تطفو في العدم” ويستمر حتى الثالث من أبريل القادم.
ويقول الفنان عن معرضه “يعد هذا المعرض امتدادا لتجربتي السابقة التي شكلت فيها تجمعات الرجال عنوانها الأساسي. كانت الأعمال التي نفذتها حول هذا الموضوع سابقا، ذات بعد سياسي واجتماعي واضح. في هذه المجموعة الجديدة أعود لاستخدام مفردة الرجل والتي لم تعد تشكل إحالة للسلطة البطريركية وحسب بل تحولت أيضا إلى مفردة تشكيلية تصنع مع باقي عناصر اللوحة بحثا جماليا خاصا يتوضح باختياري للألوان الزاهية الصريحة بشكل أساسي، والعلاقات الطريفة التي تجمع بين هذه الشخصيات – الكائنات ضمن أجواء ساخرة وعدمية في آن معا”.
وفي النظر إلى أعمال الفنان بالمقارنة مع ما سبق له أن أنتج من أعمال فنية وتحت ضوء تقديمه لأعماله الجديدة يمكن القول إن أعماله الحالية تشكل خرقا من ناحية لما قدمه سابقا واستمرارا في الوقت ذاته. ولا يزال الإنسان حاضرا وبقوة في أعماله ويمكن استخراجه بسهولة من اللوحات التي تكتظ فيها الشخوص وتتلاصق بملامح خاصة ولا زالت خاصية الهدوء الغرائبي حاضرة حتى بوجود الجماعات. كما لم يخرج الفنان عن منطق السخرية، ولكن بأقل وطأة لأنها بدت في لوحاته الجديدة أقرب إلى الخفة التي تحررت من آلام أقدارها ليس عن سابق تصميم، أو لأن الظروف تبدلت، بل لأن هؤلاء الأفراد، أي الحاضرون في لوحاته، تكيفوا مع المأساة.
ونكاد أن نقول هنا تطبعوا معا، وصارت أمرا عاديا ليس هناك فيها ما يستدعي الثورة أو حتى التململ. وفي المقارنة مع أعماله السابقة لاسيما تلك التي عرضها في صالة “آلات أو 56 ستريت” تحت عنوان “انتظار” في مدينة بيروت أصبحت شخوصه أكثر “عصرية” في هيئاتها وملابسها وفي البرودة الظاهرة على محياها وغياب التكلف في وقفاتها واختلاطها مع الآخرين.
ليس حضور الألوان المشرقة ما بدل من مسار الفنان بل غياب التدرجات اللونية وصفاؤها البلاستيكي الشديد
وفي حين كان التعاضد الوجداني سمة ملازمة لكل الشخوص التي قدمها الفنان سابقا إن في أعماله النحتية أو في اللوحات، تداخلت شخوص لوحاته الحالية وأصبحت أكثر اتحادا ولكنها أقل اكتراثا وتواطئا مع بعضها البعض ومع محيطه الذي صممه الفنان ليكون فضاء باردا أحادي اللون ولا خصوصية له. وجاءت الألوان المشرقة التي تكلم عنها الفنان لتكرس هذا الوضوح الصارخ الذي لا يكتنز أي غموض وذلك بالرغم من تشابك الخطوط المؤلفة للشخوص، وبالرغم من حضور كائنات غريبة ليست إنسانية بشكل تام، بل ظهرت أشبه “بمتحورات” بشرية، إذا صح التعبير، تنتمي كل الانتماء إلى عصرنا الجديد لاسيما بما تبشر به التكنولوجيا منذ سنوات عديدة.
وليس حضور الألوان المشرقة بحد ذاتها ما بدل من مسار فن محمد عمران، بل غياب التدرجات اللونية وصفاؤها البلاستيكي الشديد الذي يذكر بعالم الإعلان والبوب آرت.
ويصدق الفنان قولا حين يقول إن أعماله الأخيرة لم تتخل عن إظهار الجانب السياسي والاجتماعي الذي لطالما شغل نصه الفني رسما ومنحوتات (وللفنان بعض الأعمال التجهيزية) ولكنه أصبح الآن أكثر انشغالا بالجانب التشكيلي والجمالي البحت. ويظهر ذلك في قدرته الكبيرة على تشكيل شخوصه بانسياب الخطوط التي تطول ولا تتقطع. وتبرز الاختزالية كعنصر شبه جديد في نصه الفني وهو يذكر بفن الغرافيك الذي يهمه أن يكون واضحا بما يريد أن يقوله دون أن يخسر شيئا من جماليته.
وربما مرد تحولات نصه الفني لا يعود فقط إلى انشغال الفنان بتطوير نصه فقط، ولكن أيضا يعود إلى ابتعاده الجغرافي عن منطقة الجرح الشرق أوسطي الذي لا يزال يدفق دمه على وجه العالم دون أن يكدر من ملامحه قيد أنملة.
حدث هدوء الفنان وتيسر انشغاله الفني البحت وهي من الأمور التي يتمناها كل فنان لا يزال يتخبط في وطنه المأزوم دوما، فكان نصه الفني المتعالي على الجراح.
في لوحات محمد عمران يُمكن للمُشاهد العثور على الرجل العربي، والرجل الأجنبي، وذلك الرجل الذي يصعب تصنيفه
وفي لوحات محمد عمران يُمكن للمُشاهد العثور على الرجل العربي، والرجل الأجنبي، وذلك الرجل الذي يصعب تصنيفه. وتوجد أيضا الشخوص صغيرة الحجم والخفيفة التي تقف على رؤوس بعض الشخوص الأخرى ولا تشكل أي وطأة على حامليها الذين يبدون في أحيان كثيرة غير منتبهين أو غير ممانعين لوجودها وكأنها جزء لا يتجزأ منهم. ويوجد أيضا أصحاب النظارات الشمسية الذين لطالما رسمهم الفنان وشكلوا بالنسبة إليه إحالات إلى أفراد الاستخبارات الذين كانوا يتجسسون على الناس ويلقون القبض عليهم إن هم لم يلتزموا بالخط السياسي الواحد الطاغي على البلاد. غير أن هؤلاء في لوحاته تلك غابت عنهم صفة التهديد وبدوا منشغلين بما هو ما بين عيونهم ونظاراتهم. لا أكثر ولا أقل.
يُذكر أن الفنان محمد عمران من مواليد دمشق 1979. تخرج من كلية الفنون الجميلة في سوريا قسم النحت. وحصل على شهادة الماجيستير من جامعة ليون الفرنسية وعلى الدكتوراه في تاريخ الفن من جامعة ليون 2. فاز بعدد من الجوائز، وشارك في العشرات من المعارض في المنطقة العربية والعالم ونذكر منها بيروت. كما توجد أعماله ضمن العديد من المجموعات الفنية الهامة أبرزها المتحف البريطاني.