الأقدار المتداخلة لفنانين عرب في معرض جماعي

يأتي فنانو الشرق الأوسط التشكيليون من مصائر متشابهة ويحملون في ثنايا أرواحهم آلاما وهواجس مشتركة، لكنهم يعبّرون عنها بأساليب فنية متنوعة فينهلون من مدارس تشكيلية تضفي على لوحاتهم الكثير من العمق الذي يجعل من فلسفاتهم اللونية عملية إبهار مستمر للمتلقي سواء شاركهم البيئة الجغرافية نفسها أو كان غريبا عنهم.
تقيم صالة “زاوية” الفلسطينية معرضا فنيا جماعيا، بداية من شهر مارس الحالي وحتى الرابع عشر من مايو القادم في مدينة دبي الإماراتية. ويضم المعرض الذي يحمل عنوان “أقدار متداخلة” أعمالا عديدة ومتنوعة الأساليب لستّ فنانين عرب: خمسة فلسطينيين ولبناني واحد.
وأوضح مدير صالة "زاوية" زياد عناني أن لهذا المعرض الجماعي هدفا محددا وهو أن ينجح بكونه واحدا من المعارض الفردية والجماعية على السواء الذي يقدم فناني المنطقة إلى الجمهور الإماراتي.
وثمة مواضيع لا تغادر عقول الفنانين التشكيليين وقلوبهم مهما تعددت أساليبهم أو تفاوتت تجاربهم الفنية من حيث الخبرة ومن حيث الأهمية. وهذا ينطبق بشكل كامل على الفنانين التشكيليين العرب، وبالأخص هؤلاء القادمون من الشرق الأوسط الذي تتداخل فيه المصائب والنكبات، الآمال والأحلام، كما تتداخل فيه الأقدار وتاليا الرغبة الجارفة في استيعاب العلاقة العميقة والقائمة ما بين الفرد والمحيط اللصيق والبيئة الأوسع والحاضنة لشتى أنواع التحولات والانقلابات التي غالبا ما تفضي إلى هيئات مأساوية يصعب قبولها أو التعاطي معها دون المزيد من الغموض أو الامتعاض من واقع الحال.
لكن، وبالرغم من ذلك تعبق النصوص الفنية والبصرية بجماليات لا يمكن تجاهلها وإضاءات لم تستطع الأزمات خنقها أو إطفاء الوهج المحرك لها.
واتبعت بعض الأعمال المعروضة لاسيما تلك التي قدمتها الفنانة الفلسطينية رُبى سلامة تقشفا هائلا في الخطوط والألوان، ولكنها لم تخرج عن منطق مساءلة العلاقة التي تربط الإنسان بمحيطه بل ركزت عليه من خلال أشكال وخطوط هندسية قد يعتبر الناظر إليها أنه أمام أعمال تجريدية ولكن سرعان ما يندثر هذا التصور عندما يلاحظ وجود مجموعة من النمل تسير عليها، أي على الأشكال الهندسية التي طغى عليها البياض وفق خطوط تذكّر بالخرائط السياسية التي تفصح عن تبدل وانكماش التوزع السكاني لأهل المناطق الأصليين من مدن و قرى بعد أن قضمتها ولا تزال يوما بعد يوم قوى الاحتلال.
أما أعمال الفنان الفلسطيني بشير قنقار والفنان بشار الحروب والفنان نبيل أناني، فهؤلاء جعلوا من الأشجار منبعا لصورهم الفنية المختلفة والزاخرة بشحنات عاطفية متباينة.
وقدم الفنان بشير قنقار مجموعة لوحات ذات ألوان بارزة تشابكت فيها جذوع الأشجار (أشجار غامضة من الصعب تصنيفها ومعرفة ماهيتها) وأغصانها لتشكل خرقا واضحا لهدوء المشاهد الطبيعية المشغولة بصيغة معاصرة لا تعير لظلال الأشياء اهتماما كبيرا بقدر ما تعطي لوتيرة التشابك والتباعد الأهمية الكبرى.
ويتساءل مُشاهد هذه اللوحات إن كان هو يرى أشجارا رسمت لذاتها أو لقدرتها على إظهار التشابك الذي لا فكاك منه مع المحيط الذي يتخطى معنى الجغرافيا المحدود بعدة كيلومترات أو حتى أكثر بكثير.
رُبى سلامة اتبعت تقشفا هائلا في الخطوط والألوان، لكنها لم تخرج عن منطق مساءلة العلاقة التي تربط الإنسان بمحيطه
أما الفنان الفلسطيني بشار الحروب الذي اعتمد على الطبيعة في أعماله الفنية السابقة كمصدر وحي وتعبير عن مكامن النفس والنظرة إلى الآخر الفرد، والجماعة، يستولد اليوم من هيئات الأشجار الواقعية في مجموعته المشغولة بمواد وأساليب فنية مختلفة، أرواحا تتعانق وتتحاور فيما بينها بسكون غرائبي مردّه صيغة لونية أحادية أدخلها الفنان إليها. ورد لون واحد في كل عمل فني له (القاتم من اللون الأخضر والبرتقالي والأصفر) وبرز كصبغة خانقة تمنع الأشجار من الخلاص من الكآبة الحاضرة في “حواراتها” مع بعضها البعض.
وحضرت أعمال الفنان الفلسطيني نبيل عناني بأشجارها “الناطقة”، إذا صح التعبير، كما اعتدنا ظهورها سابقا وإن بتحولات دائمة واظب الفنان على ابتكارها وإعادة إنتاجها بحماس ودراية وخيال واسع لا تنضب صوره.
ويمكن القول إن حالة الحلول حضرت في أعماله المعروضة. فالشجرة باتت الإنسان لاسيما الفلسطيني والعكس بالعكس. فإن تهدّج الأول من تلقي الصدمات أتاه الثاني مُجددا وداعما له. كما ظهرت المرأة في لوحاته كما اعتدناها سابقا وإن في حلة جديدة رمزا للإنسان وعلاقته بأرضه التي لم تتبدل رغم اشتداد الضربات وانغلاق الأفق، على الأقل، حتى يومنا هذا.
وتجيء أعمال الفنان الفلسطيني يزن أبوسلامة مجاورة لأعمال الفنانة ربى سلامة، ولكن فقط لناحية النظرة الشمولية الطبوغرافية أو الجانبية الواسعة لتأثر المناطق الفلسطينية بالتغيرات التي تفرضها سلطة الاحتلال.
ويركز الفنان في أعماله الفنية على آثار إقامة الجدار الإسرائيلي العازل على البنيان الجغرافي وبالتالي على البنيان المجتمعي والسياسي والنفسي والاقتصادي. وتلعب الألوان الباهتة في أعماله دورا كبيرا في تظهير الجانب التوثيقي مما يجعل الأعمال إلى جانب فنيتها، أعمالا ذات مصداقية عالية.
ويشارك في المعرض الجماعي فنان لبناني واحد وهو المصور الفوتوغرافي ضياء مراد الذي سبق للصالة أن نظمت له معرضا فرديا تحت عنوان” إعادة تأطير بيروت” حيث قدم مجموعة صور فنية فوتوغرافية فتحت بصر المُشاهد على العديد من الأفكار المتداخلة حول نجاة العاصمة بالمطلق رصد فيها مراحل قليلة من حياة بيروت، ولكنها كفيلة بأن تسرد جوهر قصتها أمام أهلها وأمام الآخرين.
ولم تخرج أعماله الفوتوغرافية المعروضة في هذا المعرض الجماعي عن هذا المنطلق، لكنها أظهرت أكثر تعانق السماء البيروتية مع أغصان أشجار لا ندري تماما إن كانت تتلقفها أو تترقب لحظة انهيارها.