مائيات طارق بحصلي نهر يتدفق في حب بيروت

ألوان تتبع أثر الضوء على المشاهد المرسومة وفي عيون المتلقين.
الأربعاء 2022/03/16
مشاهد من الحياة في بيروت

يعرّف بعض الفنانين أنفسهم بأنهم هواة مهما أمضوا من أعمارهم في ممارسة الفن التشكيلي، ومن هؤلاء الفنان اللبناني طارق بحصلي. لكن المتأمل في أعماله والمتابع الناقد لتجربته ومراحل تطورها يدرك جيدا أنه فنان مختلف ينظر إلى العالم من حوله بحساسية شديدة فيعيد تشكيله على محامل متنوعة بألوان مائية تتبع الضوء وترصد أثره على المشاهد المرسومة وفي عيون المتلقين في آن.

طارق بحصلي شاب لبناني يعتبر أعماله الفنية نتاج هواية مولع بها منذ أن كان ولدا صغيرا. لكنها بالنسبة إلى كل من رآها هي أكثر بكثير من مجرد هواية، بل تنتمي إلى عالم فن المائيات الأكثر جدية.

وينشر الفنان باستمرار ومنذ أكثر من سنتين على صفحة الفيسبوك الخاصة به وعلى صفحة “تراث بيروت” و”راس بيروت” عددا متلاحقا من رسوماته التي تحتفي ببيروت الذاكرة وبيروت الواقع المهدد بالخطر الدائم من الداخل والخارج على حد السواء.

وكان لنا مع الفنان لقاء افتراضي تحدثنا فيه عن فنه الذي ينشره بصمت وتواضع وغزارة ويشي بولعه بالفن ولا يشبه ما اعتدنا عليه في عالمنا الحالي الذي تنهشه وتتقاذفه الحملات والتصاريح الفنية – الإعلامية الفارغة.

طارق بحصلي يشبه فنه. هادئ يخفي شغفا، وشاب ناضج يخفي قلبا طفوليا مازالت تُدهشه المشاهد ويعبر في وجدانه ضوء الساحات والطرقات الضيقة ويؤثر فيه عطر البحر وروائح إسفلت الشوارع وقرميد المباني والحجر متباين الأعمار والأزهار القليلة تحت أشعة الشمس (صبحا وظهرا وعصرا وغروبا). أزهار مازالت تزين شرفات البيوت البيروتية وكأنها إعلان عن استمرار “فلسفي” لفترة الستينات العابقة بالأمل وبالحياة المشرقية المكتظة والبسيطة على حد السواء.

طارق بحصلي: أعتمد على ذاكرتي وكاميرتي لإعادة رسم المشاهد اليومية

هو من مواليد 1972، أي من مواليد زمن قبيْل الحرب. ترعرع في الثمانينات والتسعينات الغنية بالانبهار، وبالرغم من الحرب التي أسفرت عمّا نعيشه اليوم من كابوس ما فوق التصور تمكن من الإحاطة لا بل من تسوير عالمه الداخلي فلم تصبه التشوهات التي أصابت الكثير منا.

ما يميز لوحاته هو أنها على الرغم من كونها لمشاهد واضحة المعالم ولشوارع بيروتية بناسها المنشغلين بالنزهات أو مجرد العبور من رصيف إلى آخر، لا يمكن اعتبارها لوحات سياحية فولكلورية كتلك المُملة التي تستنسخ ذاتها والتي لا علاقة لها بما يعني أن تعيش، وكيف تكون، وكيف تمضي أيامك وعمرك في بيروت.

وبحصلي لا يرسم ظاهر المشاهد إلا وهي تنضح بأجوائها وبالمشاعر التي يكنها الفنان لها. ولعل قوله إنه فنان “غير احترافي” أمر يدعو إلى الابتسام. فهل انشغاله بعالم التكنولوجيا بعد دراسته في علم الكومبيوتر وهو موظف في مؤسسة مايكروسوفت العالمية منذ 15 سنة يسقط عنه صفة الاحتراف؟ ماذا يعني أن تكون محترفا؟ هل يعني أن تكون متفرغا للفن، أو أن تكون فنانا على الرغم من كل انشغالاتك المهنية الأخرى التي تبعد كل البعد عن العالم الفني؟

ويعيش طارق بحصلي ما بين بيروت والدوحة بسبب عمله. ويضعنا بسبب ذلك، إلى جانب ما يعنيه لنا فنه، أمام التفكر في تعبير تاريخي كان يُذمّ به أي “فنان” وإن بشكل لطيف ومنمق. وهذا التعبير هو “رسام الأحد”، أي الرسام الهاوي وغير الجديّ الذي يرسم في أوقات فراغه. فطارق بحصلي إن كان يرسم بشكل شبه يومي في فترة الحجر الصحي، التي كشفت أو أعادت للعديد من البشر -ومنهم طارق- أصول اهتماماتهم الحقيقية، قد أصبح اليوم يرسم فقط خلال العطلة الأسبوعية. فهل اقتناصه لهذين اليومين لأجل الرسم يجعل منه هاويا فقط؟

وليست التسميات من قبيل هاو أو مُحترف مهمة. المهم هو ما يقدمه من صدق تشكيلي وإبداع عاطفي تحت سلطة العقل والقلب والتمرس المتواصل بأدوات التعبير الفني على حد السواء.

ألوان بحصلي تعيد إحياء ذاكرته فنيّا
ألوان بحصلي تعيد إحياء ذاكرته فنيّا

وحول بداية مشواره مع الفن يقول “عندما كنت في المدرسة كان هناك أستاذ رسم قدير يعطينا إن أردنا دروسا في الفن كل يوم بعد انتهاء الحصص الدراسية. وكنت أتابعها وأشترك في مسابقات ومعارض. ثم عندما جاء زمن اختيار الدراسة الجامعية اخترت علم الكومبيوتر وتوظفت بعد ذلك في هذا المجال. لم أعد أرسم، ولكنني استمريت في تشكيل الرسوم والخطوط على دفاتري الدراسية”.

ويضيف طارق بحصلي “حلت فترة الحجر الصحي وإذا بي أعود إلى الرسم. ثم حدث انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020 ليضعني أمام صدمة كبيرة..”، ولعل هذه الصدمة إضافة إلى كونها أظهرت حجم الدمار الهائل أعادت إلى الفنان ذكريات الحرب والخوف من الزوال وهي مشاعر يعرفها جيدا جيل الحرب اللبنانية.

عادت تلك المشاعر ومعها بعد وعمق إضافيّيْن بالنسبة إلى الفنان؛ فبيروت المدينة الصغيرة، التي ما من أحد فيها لم يشعر ويسمع بهول الانفجار ساعة حدوثه، لم تكن ساحة انفجار هائل فقط، بل كانت أيضا تذكيرا جارحا باستمرارية التهديد الذي لا يزال يتربص بها من كل جانب.

لوحات طارق بحصلي شفافة تعشق انسكاب الضوء على الجدران والأرض لتجعل منهما مرايا طرية ولينة

وعن ذلك يقول الفنان “شعرت بعد انفجار بيروت بأن المدينة في خطر الزوال. وصرت أكثر حماسا في رسم مشاهدها الجميلة ويومياتها بأهلها البسطاء الذين لم يفارقوها. واكتشفت ملكة جديدة عندي وهي قدرتي على الاحتفاظ في ذاكرتي بصور المشاهد التي كنت أراها في جولاتي اليومية. وصرت آخذ معي كاميرتي لألتقط صورا كنت أنتقي منها لاحقا كي أرسم. تضاعفت اللوحات فعمدت إلى المشاركة فيها على صفحتي في الفيسبوك ولاقت استحسانا حتى التقطت صفحة ” تراث بيروت” رسوماتي تلك وباتت تنشرها عندها. وكان ذلك بمثابة تشجيع كبير بالنسبة إليّ”.

غير أن الفنان خلال هذه الفترة وبعدها لم يتوقف هنا، بل عمد إلى تثقيف نفسه فنيا من خلال قنوات اليوتيوب وقراءة الكتب حول الفن بشكل عام. وذكر لنا أنه ذهب خلال الشهر الماضي إلى إسبانيا حيث شارك في ورشات عمل فني تدريبي على يد فنان متمكن من المائيات، وهو لا يزال إلى اليوم دائم الاضطلاع والمشاركة في الورشات الفنية.

وأكثر ما يهمّه من تلك الدراسات والمشاركات هو كيفية وصوله إلى إنجاز لوحات من خلال استخدام الألوان المائية التي تستطيع شدّ اهتمام المشاهد ويستطيع أن يظهر عبرها العاطفة التي يشعر بها تجاه ما يرسمه.

أما اختياره للألوان المائية دون غيرها من الألوان فهو مبني على عشقه لأثر الضوء على المشاهد. فالتفاصيل، أي تفاصيل المشاهد، ليست مهمة بالنسبة إليه بقدر ما يفعل الضوء بها. وهي ألوان تمنح انسيابا وشفافية هي بالنسبة إليه الأقدر على التعبير عن الضوء وتدرجاته وأثره في المشاهد المرسومة.

ويطغى على لوحات طارق بحصلي بمجملها “مناخ رطب”، إذا صح التعبير، وهي شفافة تعشق انسكاب الضوء على الجدران والأرض لتجعل منهما مرايا طرية ولينة يحلو للعابرين التلطخ برذاذها. الرطوبة هي روح الضوء في لوحاته والعكس بالعكس، وهي لأجل ذلك شقيقة روح الفنان. وكيف لا يكون ذلك متحققا عند فنان يعتبر أن الفن هو قبل كل شيء آخر احتفالية بالضوء أو كما يقول تحديدا “إنه الحمد لله على نعمة الضوء والحمد لله على نعمة البصر”؟

ألوان تنبض بالحياة
ألوان تنبض بالحياة

14