عادل عابدين والعلاقة الشائكة بين التشكيل والهوية

من الصعب الدخول إلى عالم الفنان العراقي – الفنلندي عادل عابدين، الواسع في مضامينه والأساليب الفنية المُستخدمة فيه دون الوقوع في خطأ تجاهل جانب على حساب آخر. ولذلك يشكل افتتاح معرضه في صالة “ميم” في مدينة دبي تحت عنوان “بيان موسيقي” فرصة لامعة للتطرق إلى الأجواء الفكرية والنفسية التي أسست وأنتجت عالمه الفني الشائك دون التوغل فيها لضيق المساحة المخصصة لهذا المقال.
يقدم الفنان العراقي - الفنلندي متعدد الوسائط عادل عابدين بداية من الثامن من مارس الحالي حتى الثلاثين من يونيو القادم عرضا موسيقيا في صيغة ما بعد حداثية يشتهر بها في صالة “ميم” الكائنة في دبي، وفيها ست وحدات من فن التجهيز وفيديو، يعرض خلالها الفنان العلاقة الشائكة والمتكاملة بين الفنون التشكيلية والهوية والشعور بالانتماء والسياسة والبوب آرت.
وسينتج عن التحليق حول معرضه المُسمى بـ”بيان موسيقي” عن بعد ملحوظ لدينا وللآخرين تحقيق غض النظر المقصود عن بواطن العناصر التي شكلت معرضه هذا، لا بل شكلت جزءا كبيرا من عالمه الفني بشكل عام وهو العالم الذي لا يكف عن التطور والنمو.
ومن أهم مميزات عالم الفنان عابدين التي تجلت بمعرضه الجديد أنه بمجمله عالم متفجر بهدوء غرائبي مشكوك في أمره، حيث يحقق فيه الإيقاع الموسيقي (الغربي والشرقي على حد السواء) كعنصر لطالما جذب الفنان مدخلا ومستقرا مفتوحا لاستعراضاته الفنية المؤذية والمُبلسمة في آن واحد.
وأراد الفنان اليوم كما سابقا -عن قصد في أحيان كثيرة وربما عن غير قصد في أحيان أخرى- أن يسلخ أمام متلقي أعماله الفنية، كجراح دقيق ومتيقظ لأدنى التفاصيل الناشئة خلال ممارسته لعمله الجراحي، بواطن التقيحات المتخفية تحت مظاهر العالم المعاصر وما بعد الحداثي. وهي بواطن ومسببات تقيحات، والكل يدرك ذلك، تفشت وتكاثرت بشكل خاص في جسد العالم المعروف بالشرق الأوسط. وهو شرق نبضت فيه ولا تزال التهابات جمّة وجدت أقسى تجلياتها في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان.

أعمال الفنان عادل عابدين في مجملها تبدو للناظر إليها نظرة طائر عابر وخارق النظر كوكر أفاع مصمم بدقة
وليس هذا الوصف العام لعمله الفني الحالي بعيدا عن معارضه الفنية السابقة التي شكلت على مستوى الظاهر والمضمون إشارة إضافية إلى رصيده الفني المبنيّ على هواجسه الدائمة كهاجس الهوية وحيثية الاستمرار في عالم متجهم اشتد فيه شد الحبال السياسي بين فرقاء متناحرين وغيرها من الأزمات، وذلك في قوالب فنية ما بعد حداثية برع في استخدامها وتطويرها وإغنائها من رصيده العراقي العاطفي القادر على تلمس التفاصيل وقولبتها في تجليات بصرية وسماعية مختلفة تشي بمخزون هائل من الثقافة العربية والعالمية على حد السواء.
ومن ناحية أخرى قد يكون ضربا من ضروب الجرأة أو المبالغة (عالم الفنان يتحمل ذلك وأكثر) القول إن عالم الفنان يشبه إلى حد بعيد في الشكل والمضمون وكر الأفاعي المعروف عنه أنه مأوى في ثقوب وجحور الأرض حيث تمضي فيه موسم الشتاء بنوع من أنواع حياة غير نشطة حتى مجيء فصل الربيع.
لا يوجد موضوع تطرق إليه الفنان إلى الآن إن من حيث الشكل أو المضمون إلا وكانت فيه عناصر من الذعر الهادئ المتدثر بالسخرية والفكاهة. وغالبا ما يظهر الذي “يتحضّر” في أعمال الفنان في سبات “أفعواني” بأشكال أنيقة ملتبسة كرقصة مُحرّك الدمى في معرضه هذا.
والأشكال، بل الوحدات العينية، هي عناصر مبدئية ليست إلا احتضان لتفجيرات مستقبلية ستنقض عليك عاجلا أما آجلا لتكشف ما خفت من سموم زرعها الغاصب/المحتل/ الآخر/ الأخ/ الفاسد/ الماجن طوال فترة سباتها غير المرئية للعيان.
أما من حيث الشكل فأعماله في مجملها -ومن ضمنها هذا المعرض- تبدو للناظر إليها نظرة طائر عابر وخارق النظر كوكر أفاع مصمم بدقة تلتف فيه أفاع عديدة (أفلام تجهيز فيما يتعلق بمعرضه الحالي) بأشكال حلزونية متداخلة ومتواطئة بديعة في هندستها وخطيرة في مضمونها.
ويذكّر البيان الصحافي المتعلق بمعرض “بيان موسيقي” -الذي هو أقرب إلى بيان فلسفي، سياسي، ثوري وقاتم- بهذه الكلمات “يلعب الفنان الدور المحوري في هذا العرض حيث يغني الأغاني التي أعيد ترتيبها من أجزاء من كلمات موسيقى البوب المختلفة، حيث تبدو الأغاني غريبة، ويمكن تمييزها تقريبًا، ولكنها تبدو باهتة قليلاً كما لو كانت مفقودة في الترجمة.. تتحدث مقاطع الفيديو عن ماضي الفنان منذ أن غادر وطنه العراق إلى شمال غرب أوروبا. ويتم العرض في فضاءات مسرحية مثيرة للمشاعر من خلال تأرجح مقاطع الفيديو بين المروع والمضحك والغريب حيث يواجه ذاته من خلال أساليب مختلفة”.
أما الفنان فقال عن معرضه هذا “عندما هاجرت إلى فنلندا، بدأت في مواجهة صدمة عميقة فيما يتعلق بالاختلافات بين الثقافتين، وجدت نفسي على الحدود الفاصلة بين الاثنتين، ساعدت في ممارستي للفن لكنها تشتت انتباهي لنفسي، ما أثر على قراراتي وخلق أرضًا خصبة للارتباك والاضطراب”.
وتابع “عندما تباطأ العالم أثناء الوباء قررت أن أدير عدستي وأبدأ في التحقيق في هويتي ومنظوري، لقد عرّضت نفسي لجميع الطرق الممكنة لفهم الخطأ الذي حدث بالفعل في عملية اكتشاف الذات الثالثة التي أصبحت أنا، كانت الموسيقى هي أفضل طريق لمتابعة هذا الاستكشاف، وقد صنعت ستة مقاطع فيديو موسيقية حيث غنيت وعملت كبطل، مختلطة مع العديد من الأغاني المختلفة، حيث سيتذكرها العديد من المشاهدين، يتردد صداها مع تأمل معان في حياتي”.
يذكر أن الفنان التشكيلي عادل عابدين من مواليد بغداد (1973) ويعيش بين هلسنكي وعمان، حصل على بكالوريوس وعلى الدكتوراه في الرسم من أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد (2000) وعلى درجة الماجستير في الفنون الجميلة من أكاديمية الفنون الجميلة في هلسنكي. وشارك في عدد كبير من المعارض وله معارض كثيرة في كافة أنحاء العالم.