محمود محيي الدين: الاقتصادات العربية بعيدة عن أهداف النمو

تفرض الآثار المستمرة للأزمة الصحية نفسها بقوة لمعرفة مستقبل الاقتصاد العربي، الذي يعد حلقة من بين حلقات أخرى تشكل بنية الاقتصاد العالمي. وبما أن النظرة ستكون أشمل مع وجود خبراء عرب يعملون في المؤسسات المالية الدولية، فإن مناقشة “العرب” لكيفية خروج بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبقية الدول من وضعيتها المتقلبة، تبدو أكثر موثوقية عند الحديث مع محمود محيي الدين المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي بهدف تشكيل انطباع حول ماذا ستحمل التوقعات.
القاهرة – يعدّ الحوار مع المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، وممثل المجموعة العربية، والمبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لتمويل خطة 2030 للتنمية المستدامة محمود محيي الدين، مهما في هذا التوقيت الذي تعاني فيه الكثير من اقتصاديات العالم والدول العربية من مشكلات مركبة، وتمثل توقعاته مرشدا لمعرفة ما يدور من تطورات حاليا أملا في التغلب على التحديات التي أحدثتها جائحة كورونا.
والتقت “العرب” على هامش منتدى شباب العالم الذي عقد مؤخرا بمدينة شرم الشيخ المصرية، وتحدث عن الكثير من الهموم والقضايا الاقتصادية التي تشغل بال الحكومات، في محاولة لتشخيص حالة الانكماش التي يعيشها العالم.
ومحيي الدين وزير استثمار مصري سابق وأكاديمي معروف وأحد الأسماء التي ترددت أكثر من مرة لتولي منصب رئيس الوزراء في مصر، ناهيك عن خبراته الطويلة في المنظمات الاقتصادية الدولية خلال السنوات العشر الماضية.
إذا أرادت الدول العربية مواجهة تذبذب نموّ اقتصاداتها وارتفاع التضخم وقلة المداخيل فعليها النظر إلى تجربة تجمع الآسيان
ويتزامن هذا الحوار مع صدور كتابه الجديد “مربكات ومسارات التقدم” والذي يقع في تسعة فصول، وكشف فيه لـ”العرب” عن بعض ما جاء فيه حيث تناول عددا من المشكلات التي اعترضت مسيرة التقدم والتنمية في العالم، سواء أكانت صدمات سياسية أم مستجدات خاصة بالتحول التكنولوجي لم تكن بعض الدول مستعدة لها.
وكذلك مشكلات مثل جائحة كورونا التي تعرض لها العالم وتحديد المسارات المختلفة للتعامل مع هذه الأزمات عبر الاستثمارات وصياغة السياسات والإصلاحات المؤسسية وإجراءات داخل الدول لتوطين التنمية المستدامة والإجراءات بين الدول لتفعيل أنماط التعاون الدولي.
وقال المدير التنفيذي للصندوق إن “الاستثمارات والإنفاقات العامة نجحت في خروج الكثير من دول العالم من الركود، لكن ثمة عدم عدالة في توزيع الدخل والثروة والفرص، ما يتطلب متابعة دقيقة، لأن هذه الحالة قد تخلف آثارا سيئة في ظل وجود زيادة كبيرة للمديونية الخارجية، الأمر الذي يحتاج إلى معالجة سريعة كي لا تتحول الموجة الرابعة من زيادة الديون إلى أزمة شديدة الوطأة”.
وأضاف لـ”العرب” أن “تداعيات كورونا وانعكاساتها الاقتصادية ما زالت مستمرة، لأن ظهور متحورات مختلفة للفايروس أحدثت قلقا كبيرا، فاتجهت العديد من الدول الغربية إلى الإغلاق مع إصابة النظام الاقتصادي العالمي بالإنهاك بسبب الأعباء الواقعة على الموازنة العامة، وزيادة الديون بشكل غير مسبوق في التاريخ”.
وتقترب الأرقام خلال الموجة الرابعة من 380 تريليون دولار، وهو رقم مخيف للدول وقطاع الأعمال العام والقطاع العائلي، وأسفر عن ارتفاع كبير في معدلات البطالة والتضخم وتعليق المشروعات وتعطيل الخدمات.
تضخم مستمر
أوضح المدير التنفيذي للصندوق أن ارتفاع معدلات التضخم العالمية ليست مؤقتة. وقال “للأسف حدث تأخر كبير في التعامل مع هذا الأمر في الوقت المناسب”.
وأضاف “نحن بصدد متابعة إجراءات اقتصادية وسياسة نقدية مهمة، تجعلنا نترقب أن يكون التضخم تحت السيطرة في الدول المتقدمة، لكن سيحمل تداعيات سلبية على الدول النامية فرفع سعر الفائدة في الدول المتقدمة يؤدي إلى هروب رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة”.
ونصح محيي الدين الدول النامية والأسواق الناشئة بفتح الباب على مصراعيه للاستثمارات خاصة المرتبطة بزيادة طاقات الإنتاج وفرص العمل والتصدير، فالعلاج في الدول النامية لا يعتمد على السياسات النقدية أو سياسات مالية مساندة فقط، لكن الحل يكمن في زيادة الدخول وربطها برفع الإنتاجية ودفع الاستثمارات بقوة لرفع النمو والتشغيل وزيادة الإنتاج المحلي.
ورأى أن هذه الطريقة واحدة من أسباب تقليل الآثار السلبية للتضخم العالمي في الدول النامية، حيث تحتاج إلى مهارة أكبر، لأنها مشكلة تتكون من مستويات متعددة، وحلها ليس سهلا، كما هو الحال في الدول المتقدمة.
الموجة الرابعة للجائحة كلفت الاقتصاد العالمي 380 تريليون دولار وهو رقم مخيف انعكس في ارتفاع البطالة وتعليق المشاريع وتعطيل الخدمات
وضخت الدول المتقدمة في الاقتصاد مع تفشي كورونا ما يتجاوز 25 في المئة من الناتج المحلي الأجمالي خلال العام الأول للجائحة، وهو ما كان له أثر في التعافي.
أما الدول متوسطة الدخل فالرقم يتراوح بين اثنين و8 في المئة من الضخ الإضافي، بينما الدول الأقل دخلا لم تستطع ضح أكثر من 2 في المئة، ولذلك جاءت نتيجة التعافي الاقتصادي مختلفة من دولة إلى أخرى.
وعن تقييمه لاقتصاديات الدول العربية، قال محيي الدين “من المؤسف أن معدلات نمو الاقتصاد العربي أقل من المستهدف، فهناك عدد من الدول العربية تعاني أزمات سياسية، وأخرى تواجه صراعات ونزاعات، ومن ثم جاءت معدلات النمو فيها شديدة التراجع”.
ولفت إلى أن معدلات التضخم في عدد من الدول أعلى من متوسط التضخم العالمي، “فالمتوسط العام للتضخم في المنطقة العربية يبلغ نحو 13 في المئة أي يقترب من ثلاثة أمثال معدل التضخم الدولي”.
وأرجع في حواره مع “العرب” أسباب تراجع هذين المؤشرين (معدل النمو والتضخم) في الدول العربية إلى حجم نمو الاقتصاد وتقلبات الأسعار، فالمسألة تتطلب أكثر من محدد، بينها إصلاحات على مستوى كل بلد تراعي اعتبارات الاقتصاد السياسي، ومراعاة مدى قدرة الاقتصاد على التنوع.
وتتطلب هذه المسألة تعاونا على غرار ما قامت به دول تجمع الآسيان التي تتعاون مع بعضها في الاستثمار والتجارة والتصدير، وتتمتع بعلاقات اقتصادية بينية متميزة وتولي اهتماما كبيرا للمشروعات المرتبطة بالاستدامة والتحوّل الرقمي.
ويدور معدل النمو الاقتصادي العربي حول نسبة تتراوح بين 3.5 إلى 5 في المئة، ما يعتبره الخبراء غير كاف لتوليد فرص عمل ويتطلب ضخ المزيد من الاستثمارات والتوجه التصديري، فقد بات تنوع الاقتصاد العربي ضرورة أكثر من أي وقت مضى.
بين لبنان ومصر
يعتبر لبنان من الحالات العربية الصارخة التي تحتاج الكثير من الجهود لمنع تفاقم الأزمة الاقتصادية فيه، وخوض مفاوضات مع صندوق النقد بغية الوصول إلى خطة تساعد على انتشاله من انهيار اقتصادي محقق.
وقال محيي الدين لـ”العرب” إن “كل ما يخص لبنان معلن، وأتشرف بتمثيل لبنان في مجلس إدارة الصندوق، وما زالت البعثة المكلفة بمتابعة الشأن اللبناني تقوم بالتنسيق الفني وجمع البيانات المطلوبة لإعداد برنامج متكامل للإصلاح الاقتصادي”.
وأكد أن لبنان محاوره معروفة في ما يخص إصلاحات الموازنة والسياسات المالية العامة والإجراءات الخاصة بالسياسة النقدية وسعر الصرف والتعامل مع مشكلات القطاع المصرفي، وما يرتبط ببعض الإصلاحات الهيكلية في مجال الطاقة، وفي هذا الإطار يتم تجميع البيانات والمعلومات المطلوبة ليكون البرنامج لائقا لمساندة المجتمع والاقتصاد اللبناني الفترة المقبلة.
وحول تقييمه للاقتصاد المصري يرى أن الأوضاع في البلد لا تُقارن منفردة، لكن بما كان عليه الوضع، والمجالات التي تحسنت فيها عبر الوقت بسبب برنامج الإصلاح الاقتصادي، كما تُقارن أيضا بالأوضاع العالمية المتراجعة بسبب الجائحة، فعدد قليل من دول العالم، بينها مصر، استطاعت الحفاظ على معدل نمو اقتصادي موجب حقيقي.
وبشأن توقعاته لمعدلات نمو الاقتصاد المصري خلال العام الجاري، أوضح المدير التنفيذي للصندوق، أن هناك عدة أرقام لكن من الصعب تقديرها قبل نهاية السنة المالية.
وأشار إلى أن التقديرات بناء على نماذج قياسية للتنبؤ تتحدث عن معدل نمو اقتصادي يتراوح في حالة مصر بين 4.9 و5.7 في المئة، وفي الحالتين (الأدنى والأقصى) رقم جيد للغاية عندما نعلم أن معدل النمو الاقتصادي المتوقع عالميا بين 4 و4.5 في المئة، أي أن مصر تحقق أعلى من معدل النمو الاقتصادي العالمي.
وأكد أن مسألة النمو تعد مؤشرا مهما، فكلما كان معدل النمو المحلي أعلى من العالمي وأعلى من معدل نمو الاقتصادات النامية والأسواق الناشئة، ويمكن القول إن مصر في وضع أفضل، وكلما كان معدل النمو مرتبطا بتوليد فرص عمل جيدة ودخل لائق، مدعوما باستثمارات خاصة، فاحتمالات الزيادة أكبر من النقصان.
وأشار إلى أنه عندما يصادف الاستثمار الخاص أرباحا فذلك يشجع الآخرين على الالتحاق به فيزداد معدل نمو الاقتصاد الخاص “وإذا أردنا الاستمرارية فينبغي أن يكون هناك دفع وتشجيع للاستثمار الخاص، المحلي أو الأجنبي، ما يخلق قدرة أكبر على الابتكار والتنافسية والتصدير للخارج”.
الاستثمار الأخضر ذو البُعد البيئي والمناخي هو البديل اليوم ولا بد للدول من توفير أرضية صلبة لجذب رؤوس الأموال الخارجية
ضبابية الاقتصاد العالمي
عن سبل الدفع بالاستثمار الخاص والأجنبي في ظل حالة الضبابية التي تسود الاقتصاد العالمي قال “قليل من الدول العربية التي لديها تنوع، مثل مصر، في النشاط الزراعي ومجالات التعدين والخدمات والسياحة والمجالات المتعلقة بالصناعات الغذائية”.
وأضاف “هناك مجالات واعدة للغاية، ولا أقصد المشروعات القصيرة والمتوسطة فقط، بل أيضا لدينا مجموعة من الشباب استثمرت فيهم الدولة استطاعوا استخدام الحلول الرقمية”.
وحول خطة الإصلاح الاقتصادي التي اتبعتها القاهرة وكونها جاءت قاسية، وهل ساهمت في عدم تدهور الأوضاع من عدمه؟ قال محيي الدين “لو لم تتخذ مصر خطوات الإصلاح الاقتصادي لكانت الأوضاع أكثر سوءا”.
وأشار إلى أنه خلال العام 2014 كانت هناك مشكلات اقتصادية جمة واختلالات في الموازنة العامة للدولة ومشكلات في النظام الخاص بالنقد الأجنبي وسعر الصرف و”بدأنا نرى السوق السوداء وأسعار صرف متعددة وهذا لا يساعد المُصدرين والمستثمرين، ولا يمنح الاطمئنان للمدّخر أو المستهلك”.
وذكر أنه وفقا للتقارير المتداولة عن أداء الاقتصاد المصري بعد هذه الإصلاحات لوحظ وجود تميز في الأداء، وقال إن “الاقتصاد يشبه بقيادة السيارة حيث لا يمكن النظر إلى مؤشر واحد في السيارة بل كل المؤشرات، وفي الاقتصاد نستخدم عدة مؤشرات مثل النمو ومعدل التضخم ومعدلات البطالة والمستويات الخاصة بالفقر”.
وأكد أن مصر حافظت على معدل نمو إيجابي وحققت معدل تشغيل جيدا ولم تزد معدلات البطالة عن المتوقع مع زيادة مشكلات الجائحة.
واعتبر مشروع “حياة كريمة” الخاص بتوفير الحماية الاجتماعية لمحدودي الدخل الأهم، ومبادرة ذات أثر كبير وفتحت مجالات لا حدود لها وأعطت فرصة للاستثمارات المشتركة، لأن رقم 800 مليار الذي تم الإعلان عنه لدعم المبادرة هو استثمارات عامة ومجال لمشاركة استثمارات خاصة فتصبح هناك مناطق استثمارية داخل المحافظات تفتح الفرصة للانتاج والتصدير وتجذب الاستثمار الجديد.
تقلبات المناخ والاقتصاد

تتصاعد التحذيرات بشأن التغيرات المناخية وتأثيرها على الاقتصاد، إذ تشير تقارير دولية إلى أن الاقتصاد العالمي قد يتكبد خسائر بقيمة 36 تريليون دولار سنويا بحلول عام 2050 في حال تقاعست دول العالم عن مواجهة التغيرات المناخية.
وبشأن التغيرات المناخية والتي قد تعصف بالاقتصاد العالمي وتشكل تحديا للمجتمع الدولي تحدث محيي الدين قال “كان يجري التعامل مع التغيرات المناخية على كونها شأنا مستقبليا، وتحدث لأجيال مقبلة بحلول العام 2100، وإذا لم نقم بالإجراءات التي اتفق عليها ضمن اتفاق باريس 2015 إزاء هذه التغيرات السلبية، فهذا التدهور سوف يكون مستمرا ومتفاقما وأشد ضراوة وأعلى تكلفة”.
ويستند تقديره إلى تقارير علمية قام بها متخصصون، حذروا مبكرا لكن لم يستمع أحد إليهم حتى بدأت الظواهر التي تشي بصحة التوقعات بينها تغيرات في الطقس شديدة الحدة في عدد من البلدان، إلى جانب تأثر التنوع البيولوجي للكائنات وبعض أنواع الزراعات التي لم تعد تجود بها الأراضي في مناطق زراعتها المعتادة بسبب التغيرات المناخية.
برنامج الإصلاح الاقتصادي أنقذ مصر من كوارث محققة ولبنان مشكلاته معروفة وعليه المبادرة ليحصل على دعم من الصندوق
وفسر محيي الدين لـ”العرب” هذه الأزمة بقوله “يأتي التخفيف عبر بعض الإجراءات، ومنها التحول إلى مصادر للطاقة أقل في انبعاثاتها الضارة بالبيئة، عوضا عن الاعتماد على حرق الأخشاب واستخدام الفحم والوقود الأحفوري، والاتجاه لاستخدام الغاز الطبيعي الذي يعتبر مصدرا انتقاليا أفضل للطاقة، إضافة إلى الطاقة الشمسية كنوع من الاستثمارات غرضه التخفيف من حدة التغيرات المناخية”.
وأشار في شأن إجراءات التكيف إلى أنه خلال وقت من الأوقات كان الاتجاه العالمي هو عدم الحديث عن التكيف، إذ لم يكن من المتوقع الوصول إلى أوضاع سيئة يتم التكيف معها ولم يتم الاستثمار في مسألة إدارة المياه أو القطاع الزراعي أو إدراة منظومة الغذاء للوقاية من مخاطر تدهور المناخ اعتمادا على أنه سيتم إصلاحه.
وقال إن “العالم فشل في بعض الإجراءات ومنها الالتزامات التي تعهدت بها الدول المتقدمة وأعلنت في كوبنهاغن العام 2009 لكن لم يتم الالتزام بها”. وشدد على أن كل هذه الإجراءات، سواء للتكيف أو التخفيف، تتطلب تكلفة مالية كبيرة والبديل هو اتجاه الدول النامية إلى الاقتراض.
لكنه يعتقد أنه حتى لو كان الاقتراض ميسرا للقيام بمثل هذه المشاريع فإنه لا يمكن الاستمرار به من باب العدالة أو الكفاءة والقدرة وأن البديل هو توفير مجال للاستثمار الأجنبي المباشر في كل هذه القطاعات الجديدة فيما يعرف بالاستثمار الأخضر ذي البُعد البيئي والمناخي وهي مجالات جديدة للاستثمار.
ويرى أن كلفة الاقتراض مرتفعة وتحمل أعباء على الأجيال المقبلة، لذا من الأفضل توسيع الاستثمار في مجال الاقتصاد الأخضر في الدول النامية ولو بالمشاركة بين القطاع الحكومي، وفتح الباب لاستقدام الاستثمارات وليس تدفقات مالية في شكل مديونية، فثمة حاجة إلى الاستثمار وليس زيادة القروض.