شخوص التشكيلي العراقي كريم سعدون تفاوض العدم فتحيا

افتتحت صالة فنية جديدة في بغداد بنشاط فني غامر ضمّ مجموعة كبيرة من الفنانين العراقيين المُكرسين ومن أجيال مختلفة نذكر منهم شاكر حسن السعيد وفتحي صفوت وماهود أحمد ونادية فليح وسيروان باران وكريم سعدون. وقدم الأخير لوحة قادمة من قلب عالمه الفني المشغول بشخوص طريفة وكئيبة بعض الشيء قد ملّت من التخفيّ ومن البوح على السواء.
افتتحت منذ فترة قصيرة صالة فنية جديدة في مدينة بغداد باسم “بكدادا” حدثا فنيّا مهما، إذ ضم مجموعة من الأعمال الفنية لفنانين عراقيين بارزين من أجيال مختلفة من ضمنهم الفنان التشكيلي المُخضرم كريم سعدون الذي “أحضر” إلى فضاء الصالة شخوصه الشهيرة بطرافتها وبقدرتها على تحمّل الوهن.
وبالتزامن مع افتتاح الصالة الفنية الجديدة، نشر الفنان العراقي سعدون صورا لمجموعة من أعماله الفنية التي أنجزها حديثا وأدخل عليها الألوان بقوة دون أن يُمكّنها من أن تطغى على لطافة وطرافة شخوصه التي لم “تكسب وزنا” ولم تقو عودا. كما أن مزاجها المتكدّر لم يصف وظلّ يذكّر بتعكر مزاج الأطفال. أما ما يجعل شخوصه تلك مؤثرة جدا ليس أشكالها شبه البدائية ولا مزاجها المُتعكر دون سبب مباشر أو ظاهر للمُشاهد، بل لأن هذا التعكّر العذب، السكريّ المذاق يخفي نكسات جمّة وخيبات كبيرة لا علاقة لها بالهموم الطفولية المعروفة ويمكن التكهّن على الأقل بوجودها إن تعذرّ سبر أغوارها.
ويمكن ذلك إذا عمّق المشاهد المُتأمل نظره بخلفيات اللوحات المُحملة بالرموز والإشارات والتي هي بمعظمها عناصر مستوحاة من حضارات بلاد ما بين النهرين، إضافة إلى عناصر أخرى هي عبارة عن أرقام وأحرف أجنبية ومربعات تبدو وكأنها تغور لتنبلج مجددا من تحت سطح “ماء” اللوحة مانحة إياها بقاعا مُرتجّة تذكر بالمحيطات الهادرة التي تخفي التيارات العنيفة أكثر مما تظهره.
وهي كلها عناصر شكّلها الفنان بدقّة ورقّة فبدت على حافة الاندثار، مُهدِدَة بسقوط شخوص الفنان إما في هوّة الأبيض العدمية الحاضرة بقوة في لوحاته السابقة، أو في المسطحات اللونية التي اجتاحت لوحاته الأخيرة التي يقوم بنشرها تباعا على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، أو في تلك الخلفيات التي يشتغلها الفنان وفق طبقات، تشفّ على بعضها البعض حينا وتتكثف حينا آخر، لتصبح ثقلا ماديا وعاطفيا على نفوس شخوصه المُتعلقة فيها بخيوط خفية تشبه خيوط القصب الهشّة التي تزين الأثواب العربية التقليدية.
على الرغم من خاصية الاختزال التي يتبناها الفنان بقوة في تشكيل شخوصه فقد استطاع أن يقدمها مختلفة عن بعضها البعض
وهي خيوط بالغة الدقة تلتف وتنعقد وتنبسط وتلمع في بعض نواحيها، نصبها الفنان لها إما عطفا عليها وخوفا عليها من السقوط أو إمعانا في إطالة إبقائها في عين المُشاهد المتأملة.
ويرسم الفنان سعدون الكثير من شخوصه وهي جالسة دون مقعد أو كرسيّ أو واقفة دون أرض ترتكز عليها. وهي في كلا الحالتين غير مبالية بغياب الكرسي لأنها هي بحد ذاتها حالة متحولة تتلوى وتنتصب وتتكدس وتنفرد كأي كائنات هلامية نجت من جحيم ما. هذه اللامبالاة حاضرة بقوة في لوحات الفنان. وهي لامبالاة غير متأتية من البلادة الشعورية، بل على العكس هي من النوع الذي استطاع أن يفرزه طول تأمل شخوصه في ما يحيط بها. ولفرط ما انغمست تلك الشخوص بأحوالها الشخصية ومحاولة الاندماج في المحيط الذي تعيش فيه تتبنى هيئات طريّة مكنتها من أن تستمر في ابتكار حاضرها ومستقبلها.
وعلى الرغم من خاصية الاختزال التي يتبناها الفنان بقوة في تشكيل شخوصه، فقد استطاع أن يقدمها مختلفة عن بعضها البعض إن لناحية تعابير الوجوه التي يغلبها الاستفهام حينا والنعاس حينا آخر أو لناحية هيئتها العامة. وأكثر ما يدل على ذلك هو عمل ليتوغرافيّ على ورق ظهر فيه أكثر من 50 شخصا في مستطيلات بيضاء ومنفصلة عن بعضها البعض على النحو الذي نظهر فيه نحن كبشر عاديين في الصور الفوتوغرافية الشخصية. بعض تلك الشخوص اتشحت رؤوسها بغيوم متكدرة أو ستائر شفافة أو سخام رمادي أخفى ملامح الشخوص، ولكنه لم يبددها.
وهناك أعمال للفنان خالية من الشخوص وقائمة بحد ذاتها كلوحات تجريدية تبدو كأنها تحمل بصمات العابرين. غير أن أنجح لوحاته قد تكون تلك التي تحتضن فيها الخلفيات شخوصه التي تأبى أن تسرد أي قصة، ربما تفاديا شفاء غليل الناظر إليها والمتسائل حول ما جرى لها سابقا أو ما يجري في المشهد المرسوم من حوادث وأسباب لـ”إشكالات” فردية مثل ما ظهر في احدى اللوحات حيث يقف شخص في تماس مع شخص آخر في حالة تحدّ ظاهرة بقدر ما هي مجهولة أسبابها.
ويذكر أن الفنان سعدون فنان تشكيلي عراقي، ولد في بغداد، يعيش ويعمل في غوتيبورغ في السويد منذ العام 2002، حصل على بكالوريوس نحت من كلية الفنون الجميلة ببغداد سنة 1999، وتابع دراسته للفن في أكاديمية الغرافيك في تيداهولم بالسويد سنة 2005، ومن ثمّ في غرافيك مدرسة الفنون العليا – فالاند، جامعة يوتيبوري (غوتيبورغ).
وهو مؤسس اللجنة الكاريتيرية العراقية ورابطة الكاريتيريين العرب، والحاصل على الجائزة الأولى عن تصميمه للأغلفة العراقية.
وهو عضو في عدد من النقابات والجمعيات والاتحادات الفنية والصحافية العراقية والعالمية، نذكر منها: نقابة الفنانين العراقيين، جمعية التشكيليين العراقيين، نقابة الفنانين السويديين، نقابة الصحافيين العراقيين، اتحاد الصحافيين العالمي واتحاد الصحافيين العرب.
ونشرت تخطيطاته منذ 1979 في معظم الصحف والمجلات العراقية، كما في بعض الصحف والمجلات العربية في لندن، باريس، عمان ومدريد.
وعدا عن معارضه الشخصية والجماعية، عمل سعدون كمصمم في العديد من الصحف العراقية وصمم العديد من أغلفة الكتب وهو حاصل على الجائزة الأولى لأحسن الأغلفة العراقية عام 1992.