اللون هو المضمون والأداة في معرض الفنان الفلسطيني أسامة سعيد

يتخفى التشكيلي الفلسطيني أسامة سعيد خلف ألوانه ليرسم بها عالما يستوحيه من الواقع الفلسطيني ومن الوهم، بأسلوب تجريدي يثير فكر المتلقي ويستفز عواطفه، فيحرضه على الوقوف على ذاكرة الفنان ومحاولة قراءة لوحاته التي تكشف كم أنه بارع في التعبير الجمالي عن القبح المنتشر في هذا العالم.
تقدم صالة “زاوية” في دبي معرضا للفنان الفلسطيني أسامة سعيد تحت عنوان “عبر تضاريس اللون” ويستمر المعرض حتى السادس والعشرين من شهر فبراير القادم. ويضم المعرض مجموعة كبيرة من الأعمال التجريدية والتعبيرية التي بالرغم من تجريديتها الجليّة يمكن اعتبارها تشكيلية لناحية العالم شبه الخفي الكامن في خلفياتها حيث تتجلى أشكال غامضة يمكن تحديد ماهيتها.
تجريدية حادة
تقدم صالة “زاوية” الفنية معرض أسامة سعيد بهذه الكلمات “في معرضه هذا يقدم الفنان أعمالا تجمع ما بين الواقع والوهم تساهم في خلق عالم من خامة الذاكرة التي تعجّ بها صور هاربة ومشاعر دفينة من زمن مضى”.

ألوان تتزاحم وتتداخل فيما بينها
ويضيف البيان الصحافي أن الفنان” تأثر بالفن التعبيري الألماني ولا يكتفي باستخدام اللون البحت بل يحمّله ثقل المادة التي عُجنت به وتحاورها مع النور وظلاله في اللوحة الواحدة مع الانحياز إلى أطياف اللون الزرق والأحمر والبنفسجي والأصفر”.
لا خلاف في أن حضور الألوان وتعدّد درجاتها وأمزجتها، إضافة إلى طريقة تركيبها مع بعضها البعض مقرونة بأشكال هندسية أو أخرى بالغة التفكك في جميع الأعمال الفنية بشكل عام وفي اللوحات شديدة التجريدية بشكل خاص، أمر فائق الأهمية لارتباطه ارتباطا وثيقا بمفهوم “الجمالية” حتى تلك التي تنسحب إلى براعة التعبير الفني عن كل ما هو قبيح في هذا العالم.
غير أن قدرة أعمال الفنان أسامة سعيد على تحفيز الذهن وإيقاظ عاطفة المُتلقي لا تعتمد فقط على براعته في مزج الألوان ولا على اختياره لها.
ولا يخفى على أحد عدد الأعمال الفنية العربية وغير العربية التي ضجت ببراعة التلوين وصفائه فعُلّقت في أجمل الصالونات والمكاتب الفخمة، ولكنها توقفت عن مُخاطبة المُتفرج قليلا بعد رؤيته لها.
في هذا السياق بالتحديد تبرز أعمال أسامة سعيد التشكيلي الفلسطيني الذي زخرت أعماله بتجريدية حادة ترفض ألا تُبقي على خصوصية السرد القصصي المتعلق بذاكرته الفلسطينية. وهو سرد رفض أن يكون ثرثارا وفاضحا لكل ما عنده وذلك شعوريا أو لا شعوريا فآثر أن يتخفّى في خلفيات لوحاته.
اللوحات السابقة للفنان بشكل عام والجديدة منها بشكل خاص هي أعمال تجريدية، لكنها كذلك فقط في الطبقة اللونية الأولى التي هي أقرب إلى عين المتفرج. فالفنان يبدو في لوحاته تلك وكأنه سكب خلطة لونية سائلة غير كثيفة من أعلى اللوحة واعتمد في أحيان أخرى ضربات لفرشاة عامودية محمّلة بتدرجات لونية مُتقاربة ظلت تسيل حتى غطت أسفل اللوحة لتجفّ هناك مُستكملة حجبها لما قبع خلفها من عناصر غير تجريدية هي جوهر اللوحة وروحها غير المعنية بالزخارف والتموجات اللونية المفرغة من كل معنى.
لغة الألوان

عمل تنصهر فيه جميع الألوان
هذه “السكبة اللونية” الغنية عنصر أساسي في لوحات سعيد إذ تلعب دور الستارة حين تنسدل على حدث أو شيء ما. غير أن “ستارة” الفنان لا تنسدل لتُنهي أمرا مّا أو تنكره أو لتحجب عن المُشاهد رؤيته تماما، بل لتظهّر نتوءات مشوشة وأشكال غير محددة ترمز إلى حالة النسيان والتذكّر. وهي تارة لهامات بشرية لها ملامح شديدة الغموض جاءت من ماض لم يندثر بل وضّبه الفنان قديما وحمله معه حينما غادر قريته الفلسطينية نحو ألمانيا حيث تابع دراسته الجامعية، وتارة أخرى هي لدروب متعرّجة أو أغصان أشجار تحمل ثمارا مجهولة تماما نتعرف عليها من خلال ما نعرفه عن البيئة الطبيعية التي شبّ فيها الفنان، المتمثلة في قريته “نحف” الجليلية حيث تنمو أشجار الزيتون بصمت حزين لأنه تحت تهديد اسرائيلي مستمر إما بالاقتلاع أو بالسحل أو بالإحراق لاسيما في مواسم القطاف.
واللون في لوحات أسامة سعيد، إن كان في الخلفية أو في خط لقائه الأول مع عين المُشاهد، هو الموضوع الرئيسي وهو اللغة التي يتم من خلالها تلاوة المضمون. وهو لون زخم تنصهر فيه الألوان جميعها لتشكل كُلاّ واحدا يخرج على سطح لوحات دون أخرى من خلال مسحات لونية مُتفرّعة تلفت نظر المُشاهد إلى أن أيّ لون طاغ – الذي هو الأزرق غالبا – هو في حقيقته مجموعة ألوان “اتفق” بعضها أن يظهر على حساب بعضها الآخر في أماكن ولوحات دون أخرى.
تتزاحم الألوان وتتداخل فيما بينها، كذلك تفعل نتف ذكريات الأمكنة والحوادث وملامح الأفراد الغائمة وشبه المنسية والمشاهد الطبيعية التي ترعرع في حضنها واشتاق إليها الفنان وهي تشكل أحد أهم عناصر عالم أسامة سعيد الفني الزاخر بالألوان.
وكما يتجمد اللون في تضاريس عجراء في أواسط اللوحات أو على متحدراتها كذلك تحتنق الذكرى في حنجرة الفنان لتعلن عن “إنجاز” العمل الفني وخروجه من بين يدي صانعه أسامة سعيد.
اللون هو الموضوع الرئيسي وهو اللغة التي تتم من خلالها تلاوة المضمون في لوحات أسامة سعيد
يذكر أن الفنان أسامة سعيد ولد عام 1957 في قرية نحف في الجليل، وهو يقيم ويعمل ما بين نحف وبرلين. درس الفن التشكيلي في الفترة ما بين 1982 و1988 في جامعة برلين للفنون وحصل منها على درجة الماجستير في الفنون.
عمل أسامة سعيد في مجال تدريس الفنون مدة عشر سنوات في كلية مركز الجليل في سخنين وفي كلية بار إيلان في صفد وفي غيرهما من المؤسسات الأكاديمية. وشارك في العديد من المعارض الجماعية كان من بينها معرض أُقيم في متحف الفن الحديث في برلين عام 1992، ومعرض بعنوان “الانتفاضة كفعل في الإبداع الفلسطيني” نظمته وزارة الثقافة في المغرب عام 1991، ومعرض “ذاكرة وهجرة” في صالة العرض للفنون في أم الفحم عام 2012.
وأقام الكثير من المعارض الفردية، من بينها معرض عام 1992 في متحف “إن دير هوفكيليراي” في مدينة مشلشتادت في ألمانيا، ومعرض في بروكسل عام 1994، ومعرض بعنوان “تفتّح الربيع” في صالة العرض للفنون في أمّ الفحم، ومعرض “حالات سنة 2015 في صالة “وان” في رام الله.