"في الدوائر المغلقة" استمرار في صهر الأزمنة ومساءلة الواقع

خالد حافظ يقدم هجين البوب آرت والشخوص الفرعونية.
الجمعة 2022/01/14
الفن لا يخضع للحدود الجغرافية

افتتح مؤخرا غاليري "بيكاسو إيست" الكائن في مصر معرضا للفنان المصري المعاصر خالد حافظ بعنوان "في الدوائر المغلقة". وهو عنوان ليس بعيدا عن منطق أعمال الفنان الخاص بإشكاليات العصر في زمن الافتراضية وصعوبة تحديد ماهية الاختلاف ما بين الواقع والصورة.

”في الدوائر المغلقة” هو عنوان معرض الفنان المصري متعدد الوسائط خالد حافظ، الذي قدمه في صالة “بيكاسو إيست” المصرية. وضم المعرض مجموعة من أعمال التصوير والقطع النحتية.

عندما يُذكر اسم الفنان المصري خالد حافظ أول ما يخطر على بال المرء هو انغماس الفنان في عالم المفكر الفرنسي الباهر جان بودريارد ومحاولة تظهير بعض من أفكاره بعد “تلقيحها” بأفكاره الخاصة ومخزونه الثقافي لاسيما المتعلق بالحضارة الفرعونية وشخوصها ورموزها.

جمالية وغنى العالم الفني الذي يقدمه الفنان المصري خالد حافظ في معرضه الجديد وفي معارضه السابقة وذلك من ناحية الأفكار والابتكار والتنفيذ الفني حاضرة وبقوة.

وتحضر بشكل لافت العوالم الفرعونية، ليس ببساطة استحضار هيئات الشخوص والأشكال البنائية الأخرى – وهذا أمر قام به العديد من الفنانين التشكيليين – ولكن تحضر حسب منطق الفنان والأفكار التي يهجس بها ويختبر أبعادها.

 فعلى سبيل المثال من المعلوم أن شخوص الفن الفرعوني عندما تجتمع في قطعة أثرية واحدة فهي تبدو وكأنها نسخ عن بعضها البعض تارة ومتوالدة من بعضها البعض تارة أخرى، لكن مع اختلاف في وضعيات الأجساد والأيادي وفق انشغال تلك الشخوص بأمر مّا كممارسة طقوسية أو عمل يومي مرتبط بالمجتمع آنذاك كالحصاد والزرع وما إلى ذلك.

وقد تلقّف الفنان هذا التفصيل الأساسي ليوظفه في فنه ليس فقط ظاهريا بل عبر ما يؤمن به من أفكار وضعها المفكر الفرنسي جان بودريارد “الرائي” والمتعلقة بمفاهيم مترابطة ومؤدية لبعضها البعض ومنها المفاهيم المتعلقة بالصورة الأصلية والنسخة ومن ثم انتفاء الصورة الأصلية، وتحولها إلى نسخة أصبحت هي الأصل.

خالد حافظ قادر على دمج عوالم متعددة هي في الظاهر متباعدة، ولكنها في حقيقتها متصلة ببعضها اتصالا وثيقا

وإضافة إلى ذلك وعلى سبيل المثال تبرز خاصية تسطيح خلفية الشخوص وغياب البعد الثالث في المخطوطات الفرعونية وهي سمة استطاع الفنان توظيفها بذكاء لتخدم أفكاره، خاصة في خلفيات لوحاته التي تظهر في أحيان كثيرة وكأنها فراغات لونية وليست ملوّنة يحار الناظر إليها إن كان لها عُمق مّا أو هي مجرد فراغ لا بعد له (رغم استحالة ذلك علميا)، أو هي ضرب من ضروب الخزعبلات البصرية القائمة على قوانين علمية. إنه الفضاء المفتوح بالمعنى الديجيتالي – الافتراضي.

أمّا ما يمكن قوله عن تلك الخلفيات وعلاقتها بالشخوص الحاضرة وبالأشكال الهائمة أو السابحة فيها فهو أنها تظهر فنيا وبحذاقة التباس الواقع والتواطؤ ما بين الوهم والحقيقة ومنطق الاختلاف ما بين النهائي واللانهائي وما إلى ذلك من أفكار متشعبة يصعب عرضها والتمعن فيها هنا.

أما بالنسبة إلى المنحوتات المعروضة والتي قدمها الفنان فيمكن اعتبارها تفاصيل “دائرية” بأبعاد ثلاثة تدحرجت من لوحاته أو من إحدى الخزائن الخفية الحاضرة فيها.

ويقول عنها الفنان – بقدر ما يقول عن الأعمال الفنية المعروضة جميعها – “إن اللوحات تمثل حلقات ‘الدي أن آي’ الحلزونية المتواصلة وهي أصل حياة الخلية. وأنا أستخدم الدائرة منذ عقود كرمز لتشفير الفكرة وهذه الدوائر المغلقة هي مشروع ذاتي عن البدايات والنهايات”.

عالم تشكيلي هجين
عالم تشكيلي هجين

 ولا يخفى على أحد من متابعي أعمال الفنان أنه استخدم هذه الدوائر، العريقة عراقة الإنسانية والتي ترمز أقله إلى اللانهائية وقد استخدمها الفنان بأشكال مختلفة في أعماله من خلال أشكال متعددة كأزهار اللوتس “الفرعونية” والعجلات.

ومن الواضح في هذا المعرض كما في معارضه السابقة قدرة الفنان على دمج عوالم متعددة هي في الظاهر متباعدة، ولكنها في حقيقتها متصلة ببعضها اتصالا وثيقا وهو أمر بدأ العلم يثمّنه لاسيما في السنوات العشرين الأخيرة.

وحين نقول “عوالم متباعدة” فنقصد الطب والعلم والميثولوجيا والفن والتكنولوجيا والعلاقات البشرية، وأيضا الهوية الفردية بالتواجه والتلاقح مع “الهوية العالمية” بكل ما تعني هذه الأخيرة من التباس “خبيث” الأحرى بنا كعالم عربي الأخذ ببعض ما يقدمه من إيجابيات.

حافظ فنان عابر للوسائط الفنية كما هو عابر للبلدان من خلال رحلاته الكثيرة وتعرفه على الممارسات الفنية المختلفة

وما يريده البشر حقيقة هو تسخير جزء من العالم وجعله تحت سلطة وفي خدمة عالم آخر غالبا ما يكون هو صاحب الاختراعات والاكتشافات العلمية المتفوقة، مع العلم أن جميع الاختراعات والاكتشافات التي قدمها شعب دون آخر هي نتيجة معارف وتجارب هائلة تشارك في تحقيقها الجنس البشري بأكمله بفترات متفاوتة من الزمن تقهقرت فيها حضارات على حساب حضارات أخرى.

وفي هذا السياق بالتحديد يبدو كلام خالد حافظ في أحد الأيام عن كون “حس الانتماء” إلى مكان واحد ومحدد ضرب من ضروب الخرافة خطيرا بعض الشيء إذ يقول إنه ينتمي إلى كل العالم وإلى البلدان والثقافات التي تأثر بها ويأخذنا هذا القول إلى مُسمّى “المواطن العالمي” الذي هو سيف ذو حدين وانتشر كالوباء في جميع المجتمعات لاسيما الأقل “حظا” من الأخرى وأدّى ذلك ولايزال إلى احتقار العديد من أهل تلك المنطقة من العالم حتى للغتهم العربية ولسنا في صدد طرح ومناقشة تشعبات هذا الموضوع هنا.

يمكن القول إن الفنان خالد حافظ هو فعلا عابر للوسائط الفنية (الرسم والنحت والفيديو) كما هو عابر للبلدان من خلال رحلاته الكثيرة وتعرّفه على الممارسات الفنية مختلفة المضمون والأساليب عالميا، ولكن هل كان نصه سيحظى بنفس الأهمية لو لم تكن “صهوته” مصر العريقة بحضارتها؟ وهل فنه “البوب آرت” المصري بألوانه الفاقعة وبكائناته الهجينة وشخوصه المجنّحة والسابحة وحيواناته الأسطورية المقدسة التي عراها العالم الاستهلاكي من قدسيتها سيحصل على هذه الخصوصية الفريدة في عالم يكره الفرادة؟ عالم “مُعولم” يغوص يوما بعد يوم في متاهات “الميتافيرس” وأسياده المعلومون – المجهولون.

Thumbnail
14