زياد توبة فنان لبناني يرسم بساطة الأيام العادية

نحن لا نستحق في الكثير من الأحيان أن نسافر بخيالاتنا لإنتاج أعمال فنية مميزة، فالواقع قد يكون أغرب من الخيال ويرسم أمامنا صورة تختزل في بساطتها فلسفات ومشاعر تستحق التأمل والتفكير، وهذا ما فعله الفنان التشكيلي اللبناني زياد توبة الذي يصوّر بحساسيته المفرطة انعكاسا للحياة في بيروت وما يمكن أن يشوبها من تطورات ومآس وحتى من حنين إلى الماضي الجميل يصيب أبناءها من حين إلى آخر.
منذ فترة لا تقل عن عدة أشهر بدأ الفنان اللبناني المتعدد الوسائط زياد توبة، النشر على صفحته على موقع فيسبوك عدة رسومات فيها الكثير من الحساسية وتشبه إلى حدّ بعيد النصوص الذاتية المكتوبة على هامش حياة أدمتها المُعاصرة ومعظم ما يمت إليها من سمات سلبية كالصخب، والوحدة، والمنازل الإسمنتية والآلات المتطورة التي يزداد الاعتماد عليها بهدف “رخاء” عيش يتعرّى يوما بعد يوم من لباقة ادعاءاته.
تعرفت إلى زياد توبة “افتراضيا” خلال سنة 2015 أثناء حراك شعبي حمل عنوان “طلعت ريحتكن”، وهو حراك انطلق في أولى مراحله جديا وشاملا في توجهه ضد سلطة بكل أفرادها أغرقت البلد في النفايات. ثم توثقت معرفتي به، أيضا افتراضيا، في فترة الثورة اللبنانية -التي توهمت بأنها ستقوم بتغيير السلطات الفاسدة المُتعاقبة- من خلال منشوراته على صفحته الفيسبوكية إذ تطابقت مع أفكاري وتجاورت مع منطق التعبير الذي اعتمده زياد، ونمت عن ثقافة كبيرة وميل إلى السخرية الجارحة والشجاعة في إطلاق المواقف.
وفي صباح ماطر من الأيام الأخيرة للثورة التي أجهضت كما أجهضت التي سبقتها من الداخل والخارج على السواء رأيته في إحدى المظاهرات.
اشتبهت به في البداية. لأنه لم يكن يشبه الحدّة التي ظهر فيها عبر منشوراته. وكان دليلي إليه ملامحه التي عرفتها من خلال صفحته الافتراضية الشخصية.
لكنني رأيت في تلك المظاهرة، التي نظمت لأجل إطلاق سراح أحد الموقوفين الناشطين في الثورة، جانبا لم أره في منشوراته، جانبا فيه خفَر لا بل براءة ما ليست لها علاقة مباشرة بالطفولة بقدر ما هي مرتبطة بذاته الحساسة المُثمنة للسكون وإن من ضمّ حيوية لا لبس فيها.

مرّت شهور عديدة ثم تعرفت عليه من جديد (افتراضيا أيضا) بعد انفجار مرفأ بيروت الذي هزّ المدينة في الرابع من أغسطس 2020. تعرفت إليه كفنان من خلال صورة لانفجار بيروت كان قد نشرها وعلق عليها قائلا إنها ذكّرته بعمل غرافيكي رسمه خلال سنة 2015 المفصلية آنذاك.
لم يكن هذا الرسم وحيدا، بل مرفقا بعدة رسومات لا تخرج عن دائرة الرسمة الرئيسية التي فعلا، كانت شبيهة إلى حدّ بعيد بصورة شهيرة لانفجار بيروت.
كتب يومها، تعليقا على هذه الرسمة في إشارة إلى تاريخ 2015، “منذ حوالي سبع سنوات وفي فترة استمرت لثلاث سنوات رسمت بيروت بالحبر الصيني مثل ما كنت أراها وأكره رؤيتها: مساحة للتشوّهات المتراكمة على جميع الأصعدة. رسمتها وهي مدينة منكوبة.. منذ وقت الانفجار وأنا أستعيد في ذهني تلك الصور وأقول في نفسي كم تشبه بيروت اليوم بما تشكّل في رأسي منذ سنوات”.
اليوم وبعد مرور سنة عاد زياد توبة إلى الظهور، على الأقل على صفحتي الفيسبوكية بعدة رسومات على أوراق كرتونية مهملة أعادها إلى الحياة، ليس كما يقوم الفنانون الذين يستخدمون هكذا مواد كخاصية تابعة لفن الـ”ريسايكل آرت” أو ما يسمى بـ”فن إعادة التدوير”، إذ بدت تلك الرسومات حميمية وأعادتني إلى الأكياس الكرتونية التي كانت رائجة وكان يأتي بها والدي وكل من كان في السبعينات من القرن الماضي، إلى المنزل مُحملة بأغراض من الدكاكين المجاورة. وحافظ الفنان من ناحية على خشونتها في عدة أجزاء من الرسومات تكاد تفوح منها رائحة الورق الكرتوني الأسمر المتميزة.
كما حضر في أقسام من رسومات الكرتون الرقيق والمتدرج الذي يشبه المراوح الورقية وجعلها خلفيات احتفظت بألوانها البنية الأصلية، لغرف حميمية يغلبها السكون والراحة والوحدة البعيدة عن الحزن، بل الملازمة لكل من تذوق الزمن على النحو الذي كان يتذوقه أهلنا في فترة الستينات وربما قبل ذلك من القرن الماضي. حتى أثاث المنزل البادي في الرسومات والقليل والبسيط والأنيق يعيدنا إلى ما كان رائجا في فترة الستينات من حيث التصاميم: دقة ورهافة بعيدة عن البهرجة من ناحية وعن عصرية الأثاث الفظ من ناحية أخرى.
وكسا الفنان بعض جدران تلك الغرف، المفتوحة على الخارج دون أن تتيح للخارج اجتياحها بأوراق الجدران الملونة التي كانت رائجة قديما. وجعل جدران أخرى موشومة ببعض التشققات التي زادت من حميمية الغرف التي مرّ عليها الزمن تاركا بصمته فقط في مسام الجدران وليس أثره المُدمر.
واللافت في رسومات زياد توبة ميله إلى الحرفية والتعامل مع الورق الكرتوني الغليظ والرقيق وفق أصول تتطلب إدراك مكامن قوة وضعف تلك المادة. فهو في أعماله تلك يشق ويلوي ويحفّ ويطوي ويصقل ويلوّن ويقصّ ويلصق فيظهر على السواء فنانا ومصمما وحرفيّا وظّف قدرته ومعرفته لأجل استقامة معالم وأجواء منحوتاته/رسوماته.
أما المؤثر في رسومات توبة وجود في كل رسمة شخص واحد لا يوحي بالوحدة. ملامحه غير واضحة وثيابه ملونة وهو في حالة استرخاء إلى جوار حيوان أليف منهمك بالاستمتاع بوجوده في غرفة مع صاحبه بين نبات الغرف الخضراء بالطمأنينة التي تبثها. وكأن في الرسومات/المنحوتات الهشة بيان فنان يقول “هكذا هو العيش في حميمية السكون والانكفاء إلى المنازل دون انعزال عن العالم الخارجي” صحيح أن الفنان ربما رسم معظم هذه الرسمات في فترة الحجر ولكن هذا الحجر يوحي في رسوماته أنه يصلح لأن يكون بكل بساطة وصدق اختياريا ومرغوبا به.
ذهبت “ثورة تشرين” (أكتوبر) في حال سبيلها وانفجر المرفأ وجواره وانهار اقتصاد لبنان. كل ذلك حاضر في انغماس الفنان زياد توبة بدواخل المنازل البسيطة والحميمة كما كانت قبل أن يعم الخراب على جميع الأصعدة وفي مغادرته لبنان إلى تركيا للعيش والعمل شأنه شأن العديد من اللبنانيين الذين ملّوا من الرسم والكتابة على هشاشة الأمل بالخلاص وعلى صفائح الرجاء بقيامة لبنان واقتصاصه من قاتليه العريقين.