السماء الإسمنتية لن تمنع انهمار المطر

يزن أبوسلامة يشكّل فلسطينه المحلوم بها بنفحة فنية عاطفية.
الجمعة 2021/12/31
لوحات تقع بين الحقيقة والحلم

“السماء الإسمنتية” معرض للفنان الفلسطيني الناشئ يزن أبوسلامة يُبرز بشيء من العبث الطفولي وبنفحة فنية عاطفية حزن البيئة الحضرية كنتيجة ثانوية للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. أعمال فنية متعدّدة الوسائط تسرد ازدواجية المشاعر وانعكاس الذات والسخرية من الحضور الساحق للخرسانة التي حجبت أشعة الشمس وانتشارها على أرض مفتوحة على الأمل.

قدّم مركز الفن الإماراتي “صالة الزاوية في دبي” معرض “السماء الإسمنتية” للفنان التشكيلي الفلسطيني الصاعد يزن أبوسلامة. معرض تمحور حول الهوية الفلسطينية الصامدة أمام جدار الفصل العنصري الإسرائيلي.

أعمال عديدة مشغولة بمواد مختلفة تحيل المُشاهد إلى معرض لفنان فلسطيني آخر هو مروان رشماوي ليس من حيث مجاراته ولا من ناحية  التأثر به، بل من ناحية إنشاء نص آخر مواز له ومختلف في البيان الفني والعاطفي، إذ يسرد شعريا ما هجس به “شبه علمي” الفنان الفلسطيني مروان رشماوي في معرض بعنوان “إرث وطني ومروان رشماوي”.

شاعرية الألم

أبوسلامة يستخدم مكعبات الليغو والخرسانة في أعماله مبرزا التباين بين الأحلام الطفولية والواقع المرير

يشير البيان الصحافي المرافق لمعرض “السماء الإسمنتية” للفنان الفلسطيني الناشئ يزن أبوسلامة إلى أنه -أي الفنان- “يستكشف جغرافيا بآفاق بعيدة وكثافة تراكيب. يتجلى جدار على جدار وكتلة خرسانية فوق أخرى، حزن البيئة الحضرية، كنتيجة ثانوية للاحتلال العسكري في أعمال أبوسلامة الفنية. إنها تنبعث من ازدواجية المشاعر وانعكاس الذات والسخرية مقترنة بحضور ساحق للخرسانة، ليس فقط كشكل، ولكن أيضا كموضوع واستعارة..”.

ويضيف البيان أن للعيش “في بيت لحم ومواجهة جدار الفصل العنصري الإسرائيلي، والحواجز الخرسانية التي لا نهاية لها، وأبراج المراقبة، ونقاط التفتيش.. إلخ، تأثيرا واضحا على نهج أبوسلامة الفني. كما دفعت القيود الإسرائيلية الفلسطينيين إلى البناء عموديا، ممّا أدّى إلى إنشاء أبراج سكنية خرسانية طويلة وكثيفة، وتقلص مستمر في الارتباط بالطبيعة والأماكن المفتوحة”.

أمام هذه الأعمال المنشغلة بالهمّ الفلسطيني تعود الذاكرة -وليس بعيدا- إلى أعمال الفنان الفلسطيني مروان رشماوي. ففي حين قدّم رشماوي أعمالا فنية مبنية بشكل أساسي على معطيات علمية حصل عليها بالتعاون مع  منصة “تبيان فلسطين” التي تأسّست في العام 2012، وتسعى لتقديم سرد وقائعي حول فلسطين والفلسطينيين، وشيّد أعماله مستندا إلى مواد إعلامية بصرية وبيانات، بما فيها رسوم معلوماتية وصور متحركة وتجارب تفاعلية، قدّم الفنان الفلسطيني يزن أبوسلامة أعمالا فنية ترتكز على العاطفة أكثر من ارتكازها على المعطيات الواقعية.

معطيات واقعية وتاريخية يعرفها الفنان اختار أن يشكّلها ويصبّها ويبثّ فيها نفحة فنية/عاطفية استخدم لأجل تحقيقها مجموعة متنوّعة من الوسائط، منها الورق والإسمنت ومكعبات الليغو الشهيرة والكرتون.

وفي حين حقّق مروان رشماوي ثلاثين قطعة نحتية مشتقّة من تلك الخرائط، إلى جانب بيانات طبوغرافية من “وكالة ناسا”، قدّم الفنان أبوسلامة لوحات، لا بل صفائح فيها من صلابة الإسمنت الناطق بأهوال الجدار العنصري الإسرائيلي وشاعرية النظرة إلى فلسطين العصية على الاقتلاع ما دامت فيها قطع ملونة بلاستيكية تؤلف بين مدنها وقراها وهي أكثر صلابة من الإسمنت، لأنها بارزة رغم صغرها في وسط الصبّ الإسمنتي القبيح.

وقال الفنان إنه تعلم كثيرا “عن طبوغرافيا فلسطين باليد أكثر من العين”، في إشارة إلى أعماله النحتية التي يصوّر كل منها مدينة أو قرية فلسطينية.

طائر عابر ومعبّر

سمكة خارقة لجدار العزل
سمكة خارقة لجدار العزل

تعلم الفنان يزن أبوسلامة كل ما يعرفه عن فلسطين بالعين، بنظرة الطائر الذي يعبر فوق فلسطين، فوق الجدران الإسمنتية ومراكز التفتيش الإسرائيلية وأيضا فوق المساحات التي يسكنها الفلسطينيون تحت مراقبة المُحتل.

الفنان مروان رشماوي استعان ببيانات طبوغرافية من “وكالة ناسا”، وأبحاث وخرائط تاريخية، أما الفنان يزن أبوسلامة فاستعان بحسه الطفولي المُدرك لحقائق ولمشاهد مفصلية بالفطرة.

واستعان أيضا وحتما بطائر ما، طالبا منه أن يعبر لأجله فوق أرض فلسطين خطفا سريعا ليتوقف خافقا جناحيه حدّ تشكّل دوائر (تشبه عدسات التكبير) فوق أماكن محدّدة من اللوحات ريثما يراها المُشاهد بدقة أكثر. من تلك المعالم وتفاصيلها نذكر عباد الشمس وبيضة أمام الديك، وطبق القمر الصناعي على سطح منزل وجزء يسقط من جدار الفصل العنصري، وهيكل عظمي لأسماك السباحة.

وتأخذنا تلك “الدوائر” التي تحطّ على أماكن محدّدة من اللوحات كعدسات مكبرة إلى فكرة استطاعة رسم تفصيل ما في صورة ما بإمكانها أن توقظ احتكاكا مباشرا مع مُشاهدها ليولّد المعنى.

تفصيل هو النقطة الأساسية بالنسبة إلى أبوسلامة، وهو بمثابة مفتاح يقدّمه الفنان للغوص في ما تستبطنه كل صورة على حدة. وهذا ما أبدع المفكر الفرنسي رولان بارت في الكلام عنه في مؤلفه الرائع “الغرفة المضيئة”.

أعمال الفنان الشاب تتميّز بعدم الاكتمال في إشارة إلى أن ما تعيشه فلسطين من كابوس يعقبه انفراج قادم لا محالة

وتلفت النظر في أعمال أبوسلامة خاصية “غير الاكتمال”، إذا صحّ التعبير، فثمة أشياء وأشكال يلوّن الفنان قسما منها ويترك القسم الآخر دون ألوان، كما يرسم أشكالا في تمام تشكّلها ويرسم معالم أخرى تفتقر بعضا من أجزائها وهيئتها. وكيف لا ولوحاته تقع بين الحقيقة والحلم، وبين الكابوس والأمل بتغيّر قادم لا محالة.

مشاهد أعماله هي عبارة عن متقطعات زمنية لم يتمكّن طائر خفيّ وعابر أرسله الفنان من سبر أغوار معالم بلد اجتاحه الإسمنت الإسرائيلي عرضا بجدران العزل، واختنقت به السماء بفعل القيود الإسرائيلية التي دفعت الفلسطينيين إلى البناء عموديا. 

وفي حين يخيّم حزن نهائي على المجسمات الفنية التي شكّلها الفنان مروان رشماوي، يعد الفنان يزن أبوسلامة مُشاهدي أعماله ببصيص أمل يرتدي ألوانا زاهية ويراه “الطائر” وهو في عزّ عبوره.

يُعنْون الفنان العديد من لوحاته بعناوين ترجع إلى رواية من روايات غسان كنفاني وإلى شعر محمود درويش. من تلك العناوين نذكر “رجال في الشمس” و”لماذا تركت الحصان وحيدا”.

واللوحة المذكورة أخيرا تؤكّد للمُشاهد وللفنان على حد السواء أن الإسمنت حاضر فعلا، وكذلك هو الحصان الشامخ ذو اللون الواضح والشكل المسيطر على كل تفاصيل اللوحة.

Thumbnail
14