مدونة مهنية وأخلاقية تطوق الإسراف في إعلام الجريمة بمصر

لجأ مجلس تنظيم الإعلام في مصر إلى وضع مسودة مهنية وأخلاقية تستهدف تطويق الإسراف في إعلام الجريمة، أملا في الحفاظ على سمعة المنابر الإعلامية وثقتها عند الجمهور. وسعى لتجنيب تحويل المنصات إلى فضاء للإثارة الإعلامية التي تسيء إلى الدولة.
القاهرة – تضمنت مدونة السلوك، والتي أعلن عنها مجلس تنظيم الإعلام في مصر مساء الثلاثاء، سبعين توجيها لوسائل الإعلام عند تغطية الجرائم، وشملت الضوابط معايير نشر الحوادث وطرق عرض تفاصيلها، والصور المستخدمة وطريقة كتابة العناوين لتكون بعيدة عن الإثارة والألفاظ الجنسية، مع عدم انتهاك الخصوصيات أو استباق الأحكام القضائية، والالتزام بقرارات حظر النشر في بعض الجرائم.
وتستهدف المدونة الحد من التركيز على رصد الجرائم والتسويق لها بلغة مثيرة، تُظهر المجتمع وكأنه أصبح “غابة”، حيث استشرت هذه الثقافة في بعض المنابر والمنصات بحثا عن جذب الجمهور لتحقيق نسب مشاهدة عالية على حساب المهنية.
وصارت أخبار الجرائم لها أولوية عند الكثير من الصحف والمواقع الإلكترونية، في حين تأتي أخبار السياسة والاقتصاد وباقي الملفات الأخرى في مرتبة ثانية وثالثة وربما رابعة، لإدراك القائمين على إدارة الإصدارات الصحافية أن الإثارة تجذب الجمهور، أما الموضوعات الجادة فلا تلقى رواجا، وهي ترويج للحكومة.
وتوحي انتفاضة مجلس الإعلام تجاه فرملة السباق نحو نشر الجرائم بأدق التفاصيل بأن هناك دوائر رسمية صارت ممتعضة مما يحدث، فلا يُعقل أن تكون الأولوية في النشر والترويج من جانب المنابر الإعلامية للأخبار المثيرة مثل الاغتصاب والقتل والخطف وغيرها، مقابل تهميش المشروعات التي تتحدث عنها الحكومة.
وتُدرك دوائر رسمية أن تسليط الضوء على الموضوعات المثيرة والجرائم الشاذة كان يمكن قبوله خلال فترات سابقة استدعت إلهاء الناس عن قضايا شائكة، مثل ارتفاع الأسعار وغياب الأمن والاستقرار، وغضب الناس على الحكومة حول قرارات بعينها، لكن أن تستمر الوتيرة مع تحقيق نجاحات في ملفات تمس صميم حياة الناس، فهذا يسيء لدورها الإيجابي.

وبعيدا عن الرؤية الحكومية لإعلام الجريمة والإثارة، تثير طريقة عرض الكثير من الصحف والمواقع لأخبار الجريمة علامات استفهام عديدة، فلم تعد تفرق بين حق الناس في المعلومة حتى لو كانت مرتبطة بحادثة شاذة، وبين قيامها بالتحريض على ارتكابها مرة أخرى، إذ يتم نشر كل التفاصيل حولها بشكل ربما يجعل البعض يتعاطف مع المتهم/ المتهمة، وقد يكرر نفس الفعل الإجرامي.
وحظر مجلس الإعلام على المنابر أن تقوم بعرض أخبار الجرائم بطريقة تحفز الناس على ارتكابها أو توعيتهم بطريقة ارتكابها لاحقا، فالأهم من نشر الحادثة أن تتم الاستعانة بآراء خبراء لتحليل الواقعة وتوعية الجمهور بعدم تكرارها، والاعتماد على ما يسمى بثقافة العمق التي تفتقدها أغلب وسائل الإعلام في تناول هذه القضايا.
وقال محمد شومان عميد كلية الإعلام بالجامعة البريطانية في القاهرة، إن وضع مسودة تنظم نشر أخبار الجرائم نقطة إيجابية، والميزة أنها مازالت مطروحة للنقاش ولم تصدر كأوامر، لكن المعضلة أن مجلس تنظيم الإعلام لم يحدد من يتابع تطبيق هذه القواعد، وأغفل التطرق للإجراءات العقابية التي ستتخذ ضد المخالفين للمسودة.
وأضاف لـ”العرب” “لقد غاب عن المسودة تقديم مقترحات أو إرشادات للتغطية الصحافية للمحاكمات، وفي كثير من الدول الغربية هذا موجود ومعمول به وغير مسموح تصوير المتهم وهيئة المحكمة بل رسمهما فقط، وهناك مواد كثيرة في المسودة تدخل في باب الكلام المرسل العام، مثل مقتضيات الأمن القومي، وهي من الكلمات المطاطة، والحديث عن عدم نشر الصور الصادمة والفاضحة، فما المقصود بذلك؟”.
ويعتبر بعض الخبراء أن تدخل مجلس تنظيم الإعلام في تحديد طريقة عرض أخبار الجرائم محاولة لفرض المزيد من القيود، في حين هناك آخرون أثنوا على الخطوة، لأن دور الإعلام أكبر من مجرد اختزال المهنة في نشر الإثارة والنبش في قضايا تسيء للمجتمع وتجعله يبدو دمويا، مع استسهال انتهاك خصوصيات الآخرين.
ويرى هؤلاء الخبراء أن مواجهة الإثارة الإعلامية وأخبار الجريمة بحاجة إلى جهات تمتلك صلاحيات قوية في المحاسبة، لأن هذه نقطة أولى يمكن البناء عليها لإعلام مهني ومؤثر، وهذا لا علاقة له بحرية الرأي والتعبير من عدمها فتصحيح مسار المنظومة حق لجمهور صار ممتعضا من الإعلام أكثر من أيّ وقت مضى.

وحال تم تفعيل الضوابط التي وضعها مجلس الإعلام، فقد يتسبب ذلك في غلق منافذ الإثارة التي كانت تعتمد عليها الكثير من المنابر لاستقطاب الجمهور وزيادة نسب المشاهدة والقراءات، لأنها صنعت جماهيريتها من عينة الموضوعات السطحية والقصص الشاذة، وبالتالي ستكون مطالبة ببدائل جادة تحافظ بها على مكانتها.
وقد تكون أكبر خطيئة يقوم بها الإعلام في مصر أنه يُحاكم المتهم في أيّ قضية قبل أن يحاكمه أو يبرئه القضاء نفسه، حيث ينقل عن شهود عيان وقانونيين ويستفتي الخبراء في العقوبة المنتظرة، ويقوم بالتشهير ببعض الأسماء حتى لو كانت رموزا ضالعة في القضية ما يشكل ضغطا على القضاة في المحكمة، ومن هنا تزايدت قرارات حظر النشر في كثير من القضايا.
ويبدو الإعلام الذي يشتكي التضييق بذريعة الاستسهال في قرارات حظر النشر، من الأسباب التي جعلت علاقة بعض المؤسسات الحكومية معه قائمة على كتمان صوته، لأنه يناقشها بطريقة توحي بأنه القاضي الذي من حقه إصدار الأحكام، يبرئ هذا ويدين ذاك، ومبعثه أن أغلب قرارات حظر النشر ترتبط بجرائم يتم تناولها إعلاميا بشكل غير مهني ومثير. وتقوم بعض وسائل الإعلام بتناول حادثة بعينها ولا تكف عن الحديث حولها، وتتابعها بكل تفاصيلها وتعيد نشر تطوراتها البسيطة على مدار اليوم، طالما أنها تحظى بقبول جماهيري، وغالبا ما تكون جريمة بالغة الشذوذ ودخيلة على المجتمع، وفي كل مرة يتم استبدال العنوان ووضع كلمات مثيرة وإيحاءات خبيثة لجذب المزيد من المتابعين.
وقال حسن علي أستاذ الإعلام ورئيس جمعية حماية المشاهد المصري “طالما استمر إيمان مسؤولي وسائل الإعلام بأن الأخبار المثيرة والجرائم وحدها الجاذبة للجمهور، لن ينصلح حال الإعلام في مصر ولن يتم التفكير في المهنية والموضوعية، لإدراك هؤلاء أن الجدية طاردة، وهو ما يكرس السطحية في النقاش تجاه أي قضية جدلية في المجتمع”.
وأوضح لـ”العرب” أنه مهما كانت هناك قيود على الإعلام لا يمكن تبرير الإثارة والتركيز على الجريمة مقابل إهمال النقاش للقضايا الملحة عند الناس، لأن الاستمرار على نفس الوتيرة يجعل الإعلام السبب الأول في تغييب الوعي بدلا من أن يكون مصدر التوعية للناس وسط فوضى المنصات وتحول بعضها إلى مصدر للشائعات.
ومهما بلغت أهمية تناغم الإعلام مع احتياجات الناس، فتعامل بعض الصحف والمواقع والبرامج التلفزيونية بمنطق “ما يطلبه المستمعون والمشاهدون” سوف يظل خطيئة، ولا يعني وجود شريحة تستهويها الإثارة وقصص الجرائم أن تصبح ثقافة سائدة فتقود إلى هيمنة السطحية على السياسة التحريرية، ولذلك سيكون تدخل مجلس الإعلام مهمّا إذا نجح في تطبيق مدونته المهنية والأخلاقية دون حجر على الحريات.