كتاب يوثّق لتاريخ دراما نابضة بالحياة والتجديد

لكل حركة فنية تاريخ لا بد من توثيقه والوقوف على مكامن القوة والضعف فيها، ليصار إلى معرفة ما يمكن عمله مستقبلا على الشكل الذي يتيح تقديم أفضل النتائج. وفي تاريخ الدراما التلفزيونية السورية التي تجاوزت الستين عاما بقليل مراجع قليلة، اهتمت بالتوثيق لها وعنها. وتبدو تجربة كتاب “تطوّر السيناريو التلفزيوني في سوريا 1960 – 2010” للكاتب عماد ندّاف محاولة لتلبية هذا الاحتياج.
دمشق – يقدّم كتاب “تطوّر السيناريو التلفزيوني في سوريا 1960 – 2010” للكاتب عماد ندّاف معلومات بحثية وتوثيقية عن نشوء حركة درامية وتطوّرها، وهي تعتبر اليوم من الدراما العربية المتميزة.
فمعروف أن الفن السوري عموما قد عرف الدراما بشكل أولي مع ظهور مسرحيات قديمة تمثلت في ما يسمّى خيال الظل الذي كان يقدّم في المقاهي العامة بدمشق وغيرها، ومن ثم وجدت البدايات المسرحية التي أسّس لها أبوخليل القباني منذ أواخر القرن التاسع عشر. ثم تطوّر أمر الدراما وشاعت أكثر، وبقيت ضمن حدود المسرح الذي انتشر في كل أرجاء سوريا وضمن أشكال مختلفة، إلى أن وجدت الإذاعة التي توجّهت نحو فن الدراما بكثير من الاهتمام وقدّمت كتّابا وفنانين كثرا يعرفهم المجتمع السوري تماما.
ومع بداية التلفزيون السوري في البثّ في أواسط عام 1960، وأثناء قيام الجمهورية العربية المتحدة بين سوريا ومصر، بدأت الدراما السورية في الظهور بشكل مختلف. فبدايات الدراما السورية التلفزيونية كانت بدائية وصعبة في ظل وجود حالة تقنية ضعيفة وتقاليد عمل هزيلة، لكنها تطوّرت بسرعة وحقّقت نقلات نوعية حتى صارت إحدى أهم تشكيلات الدراما العربية.
غياب المراجع
يقول عماد ندّاف في كتابه الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب عن السبب الذي جعله يبادر إلى وضع هذا الكتاب الذي كلفه قراءة الآلاف من الصفحات والبحث عن العشرات من الأعمال القديمة في أرشيف التلفزيون السوري “الحالة التوثيقية في الدراما السورية التلفزيونية غير موجودة، فالنصوص ذاتها تهمل بعد تنفيذها والكتابة النقدية عنها مبعثرة وغير منظمة والمراجع التي ألفت بشأنها قليلة، على عكس السينما، التي وجدت في شأنها كتابات ومراجع جعلت منها حالة فنية موثقة، لذلك قمت بتأليف كتاب يوثّق هذه الحالة، وقد بدأت العمل على هذا المشروع منذ العام 1994، وصدر في العام 2020”.
وعن مدى تقبّل الوسط الفني السوري للكتاب يُتابع نداف “لم يتلقّف الكثير من أهل الوسط الدرامي السوري الكتاب بلهفة، في حين تحمّس آخرون له، وأذكر هنا أن المخرج هيثم حقي أُعجب بالكتاب ووصفه بالعمل المدهش، وطلبت منه كتابة مقدمته وفعل، بينما رفضه آخرون واعتبروه محاباة لهيثم حقي وآخرين، لكنهم بعد ذلك انتصروا له”.
وقدّم الكتاب بحثه في محورين أساسيين هما: تاريخ النص الدرامي التلفزيوني من جهة وأنواعه وأشكاله التي كان عليها من جهة ثانية خلال مراحله التاريخية التي امتدت لخمسين عاما، تنتهي في العام 2010، فتناول الكتاب موضوعات تعلقت بالظرف السياسي والاجتماعي الذي واكب حركة تطوّر النص التلفزيوني السوري، فمع ولادة الدراما التلفزيونية كان المناخ السياسي الموجود متعلق بفكرة الوحدة العربية ووجود التيار الناصري والجمهورية العربية المتحدة.
وبُعيد ولادتها بفترة قصيرة حدث الانفصال عام 1963 وعاشت الدراما السورية مناخا بعيدا عن الوحدة، وزمنا كان فيه الصراع السياسي الحزبي حارا، وصولا إلى مرحلة الصدامات السياسية الحزبية التي شكّل بعضها منعطفات في تاريخ سوريا الحديث.
ويستعرض الكتاب في تفاصيله تراجم لبعض الشخصيات التي أسهمت في تكوين النص التلفزيوني السوري منذ البدايات مثل محمد الماغوط وعبدالعزيز هلال وأكرم شريم وفوزي الدبعي وأحمد قبلاوي وحكمت محسن وعدنان حبال. ومن الجيل الثاني مأمون البني ودياب عيد وزهير أمير براق وإلياس إبراهيم وفؤاد شربجي. وفي مرحلة لاحقة منه قدّم الكتاب تراجم عن بعض الأعمال التي حقّقت رواجا ظاهرا في حركة تطوّر الدراما السورية.
بدايات الدراما التلفزيونية السورية كانت بدائية وسط وجود حالة تقنية ضعيفة وتقاليد عمل هزيلة، لكنها تطوّرت بسرعة
فكان هناك نصيب للمسلسل الشهير “حمام الهنا” الذي يعدّ أهم الأعمال السورية التي شكّلت منعطفا في تاريخها، وهو المقتبس عن فكرة من الأدب الروسي القديم تلقّفها الكاتب نهاد قلعي ونسج منها مسلسله الشهير، وقدّمه إلى الجمهور بمعية دريد لحام ورفيق سبيعي وآخرين.. وهو المسلسل الذي عرّف بشكل مبدئي الجمهور العربي على الأعمال الدرامية التلفزيونية السورية، وكذلك نشر اللهجة السورية في العالم العربي عموما.
كذلك توقّف الكتاب عند مسلسل هام هو “أبوكامل” الذي كتبه فؤاد شربجي وأخرجه علاء الدين كوكش وحقّق تطوّرا دراميا هاما على صعيد تعاطي الدراما مع الحياة السياسية الاجتماعية والاقتصادية في سوريا. وبعده توقّف مع المسلسل الشهير “أيام شامية” الذي استعرض الحارة الشامية بشكل عاطفي فيه الحنين والوجد لأيام ماضية، وقدّم فيه النص الذي كتبه أكرم شريم فضاءات غير مسبوقة جسّدها بسام الملا مخرجا.
وفي تناول ثالث تطرّق الكتاب إلى المسلسل الشهير “باب الحارة” متحدّثا عن الظروف الخاصة التي أوجدته والتي دخلتها عوامل فنية وإعلامية وترويجية مختلفة.
كرّس الكتاب جزءا من مساحته لتناول موضوعة النص التاريخي في الدراما السورية، وهي التي ظهرت منذ البداية من خلال أعمال عديدة منها “رابعة العدوية” لنزار شرابي مؤلفا ومخرجا 1961، و”حكايات العرب” لإبراهيم الصادق وعلاءالدين كوكش 1962، و”موت الحلاج” لرفيق الصبان وفيصل الياسري 1968 وغيرها، مرورا بـ”القعقاع بن عمرو التميمي” لمحمود الجعفوري والمثنى صبح، و”كليوباترا” لقمر الزمان علوش ووائل رمضان، وصولا إلى بعض الأعمال التاريخية التي شكّلت منعطفات هامة في مسار الدراما السورية عموما والتاريخية خصوصا، مثل “حرب السنوات الأربع” لداوود شيخاني وهيثم حقي، و”العبابيد” لرياض سفلو وبسام الملا، و”أخوة التراب” لحسن. م. يوسف ونجدة إسماعيل أنزور، و”صقر قريش” لوليد سيف وحاتم علي.
بين الحقيقي والمتخيل
يُثير ندّاف في كتابته مسألة العلاقة بين الحقيقي والمتخيل، وصعوبة الكتابة في البعد التاريخي، خاصة عندما يتعلّق الأمر بنقص الوثيقة التي تقيّد الكاتب، فيضطر لاستعمال الخيال لإبراز بعض الأفكار والأحداث الدرامية، لكنها تظل منسجمة مع ذهنية الشخصية وروحها، الأمر الذي يرفضه كتاب آخرون ويرون فيه تزييفا للتاريخ.
وفي مسار حياة الدراما السورية، محطة توقفت عندها بشكل جليّ، وهي الاقتباس، وعنها يقدّم نداف تحليلا يستعرض فيه بعض التجارب الدرامية في هذا الخصوص، حيث ثبت أن العديد من الأعمال اقتبست عن أعمال عالمية أو عربية، منها مسلسل “أسعد الوراق” المقتبس عن رواية “الله والفقر” للكاتب صدقي إسماعيل، ومسلسل “البحر” المقتبس عن مسرحية “البحر” ليوجين أونيل، و”ليل المسافرين” الذي كتبه قمر الزمان علوش عن رواية “البؤساء” لفيكتور هوغو، و”جواد الليل” المأخوذ عن رواية “أحدب نوتردام” لهوغو، و”الرياح الأبدية” لمحمد بدرخان والمأخوذ عن رواية “الخيميائي” للكاتب باولو كويلهو. كذلك يبيّن الكتاب كيف اسلتهم كتاب الدراما السورية من السير الشعبية العديد من الأعمال منها “حكايا شهرزاد”، و”الزيناتي خليفة” و”سيرة بني هلال” و”الزير سالم” و”عنترة”.
وحمل كتاب الدراما السورية مشروع تقديم السير الذاتية للعديد من الشخصيات التي أثّرت في التاريخ العربي أو الإسلامي، فعبر التاريخ العربي تصدّى الكتّاب لتقديم نماذج درامية عديدة، منها خالد بن الوليد والقعقاع بن عمرو التميمي وصلاح الدين الأيوبي، وحديثا شخصيات شهيرة منها نزار قباني ويحيى عياش وأسمهان وفي حضرة الغياب عن الشاعر الفلسطيني محمود درويش.
ويبيّن عماد ندّاف في كتابه أن الحاجة إلى الكوميديا ظهرت منذ اللحظات الأولى التي وجدت فيها الدراما التلفزيونية، والتي كانت موجودة فعلا من خلال بعض الفقرات التي كانت تعدّ لتقديمها في سهرات تلفزيونية عبر البثّ اليومي، وعندما ظهرت لاحقا شخصية “غوار الطوشة” لدريد لحام وبعدها شخصية “حسني البورظان” لنهاد قلعي وغيرهما.. شكّلت أرضية مكّنت من خلالها إلى تأسيس توجه درامي كوميدي استفادت منه الحركة الدرامية السورية لاحقا. وتطوّر الأمر في الكوميديا السورية فتقدّمت بشكل كبير.
واستعرض الكتاب مسيرة دريد لحام مع محمد الماغوط، ثم ظهور “مرايا” ياسر العظمة الشهيرة، ثم المسلسل الشهير “بقعة ضوء” الذي قدّم شكلا نصيا مختلفا في الدراما السورية باعتماده صيغة النصوص القصيرة، وحقّق نجحا كبيرا.
